كاتب سعودي
نقتربُ من نهاية العام المالي 2013، المقدّر أن تتجاوز إجمالي إيراداته 1.2 تريليون ريال، أي بزيادة 41 في المائة على إيرادات الموازنة العامّة المقدّرة في بداية العام بـ 829 مليار ريال، وأن تتجاوز في جانب المصروفات العامّة سقف 975.2 مليار ريال، أي بزيادة 19 في المائة على المصروفات التقديرية للموازنة البالغة 820 مليار ريال.
تأتي التوقعات باستمرار الوضع المالي القوي للميزانية العامّة لهذا العام، وأن تكون أفضل من التوقعات والتقديرات التي وضعتها المالية العامّة نهاية العام الماضي، كل ذلك بفضل استمرار الأوضاع السعرية المرتفعة لأسواق النفط العالمية، بصورةٍ أفضتْ إلى التحسّن الجيد جداً على ميزان المالية العامّة، ما ينبئ عن توقعات بتحقيقها لفائضٍ مالي سيتخطى 193 مليار ريال ”نحو 6.4 في المائة من الاقتصاد الوطني”، مقارنةً بفائض مقدّر لا يتجاوز التسعة مليارات ريال في الموازنة التقديرية للعام الجاري، ومقابل فائض مالي بلغ 374.1 مليار ريال بنهاية 2012.
التراكم الإيجابي لهذه الفوائض منذ 2003 ”باستثناء العجز الطارئ في عام 2009 بنحو 86.6 مليار ريال” الذي وصلت قيمته إلى أكثر من 2.3 تريليون ريال، أتاح فرصاً ذهبية عديدة أمام الاقتصاد السعودي، لعل من أبرزها ما يلي:
(أولاً) تمكّنت المالية العامّة من إطفاء أجزاء كبيرة من الدين الحكومي العام؛ نتج عنه انخفاض الدين العام من أعلى مستوياته المسجلة في عام 2002 التي بلغت حينها نحو 685.2 مليار ريال ”97.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي”، ليستقر مع نهاية عام 2012 عند مستوى 98.9 مليار ريال ”3.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي”، بمعنى أن المالية العامّة السعودية قد قامتْ بتسديد أكثر من 586.4 مليار ريال ”85.6 في المائة من إجمالي الدين الحكومي عند ذروته في 2002”، استمرّت مؤشرات التحسّن في هذا الجانب عبر الفترة الماضية بصورةٍ ساهمتْ في وضع المالية العامّة السعودية على أرضيةٍ صلبة، تمثلتْ في وقوفها اليوم على رصيدٍ تاريخي من الاحتياطيات تناهز قيمته بأرقام اليوم نحو 2.6 تريليون ريال.
(ثانياً) أن تلك الفوائض المالية القياسية أتاحت للمالية العامّة في السعودية فرصاً واسعة جداً للتوسع في الإنفاق على مشروعات تنموية وبرامج جديدة تتجه مباشرةً إلى دعم وتطوير البنية التحتية للاقتصاد السعودي؛ بهدف توسعة القدرة الاستيعابية للاقتصاد السعودي، وزيادة قدراته الإنتاجية، بصورةٍ تعزز من خلق فرص الاستثمار المحلية، ما سيساهم في جذب المدخرات الوطنية لتأسيس المزيد من المشروعات المتعلقة بالإسكان والطرق والمطارات والسدود والعديد من متطلبات التنمية المستدامة والشاملة للبلاد والاقتصاد الوطني. وقد بدا واضحاً جداً من اندفاع المالية العامّة لمضاعفة إنفاقها على تلك القطاعات بنحو 12 ضعفا في النصف الثاني من العقد الماضي! ونحو ثلاثة أضعاف في جانب إنفاقها الجاري.
وبالتوسّع في الجزئية الثانية المتعلقة بزيادة الإنفاق على المشروعات التنموية والبرامج الحيوية المرتبطة في الدرجة الأولى بالمجتمع السعودي وبالفرد، فقد منحت تلك المزايا فرصاً غير مسبوقة، نتج عنها تخصيص مبالغ مالية هائلة من الموازنات الحكومية للإنفاق عليها بسخاء، ووفقاً لما تم رصده خلال عقدٍ مضى تقريباً (2003 ـــ 2012) فقد وصلت قيمة هذه المخصصات على هذه المشروعات والبرامج إلى أكثر من 1.4 تريليون ريال، شكّلت في المتوسط نحو 26.1 في المائة من الإنفاق المقدّر للفترة، ويُقدّر أن يرتفع الإنفاق على تلك المشروعات بنهاية العام الجاري لأكثر من 1.7 تريليون ريال! وبالنظر إلى تفسيرها على مستوى الأطراف المعنية بها، فإنها تأتي تلبيةً قصوى لتطلعات وتوجيهات القيادة الرشيدة في السعودية من جانب، ومن جانبٍ آخر أتتْ تلبيةً واستجابةً للاحتياجات التنموية للمجتمع والوطن في نهاية الأمر، وبينهما تضطلع الأجهزة الحكومية المعنية بتنفيذ تلك المشروعات والبرامج عبر تعاقدها مع القطاع الخاص المحلي، وهنا يجدر التركيز على أهمية درجة التقدّم المتحققة عاماً بعد عام، حول تنفيذ تلك المشروعات والبرامج، وهي مسؤولية ملقاة بالكامل على الأجهزة الحكومية المعنيّة بكل مشروع أو برنامج ومعها القطاع الخاص الموكلة إليه مهام التنفيذ والتسليم.
وبالنظرِ إلى مقاييس كفاءة الاستثمار لذلك الإنفاق الهائل على تلك المشروعات والبرامج التنموية للفترة الماضية ”مساهمتها في النمو الاقتصادي الحقيقي”، فقد أوضحتْ تراجعاً لافتاً في معدلاتها مقابل ارتفاع حجم المخصصات المالية للإنفاق عليها، حيث سجّلت تراجعاً من أكثر من 27 في المائة في عام 2000 إلى أقل من 10 في المائة بنهاية عام 2009. إن هذا التباين اللافت بين زيادة الاستثمارات الحكومية على المشروعات والبرامج التنموية من جانب، وانخفاض مساهمتها في النمو الاقتصادي الحقيقي ”كفاءة الاستثمار” من جانبٍ آخر، يستدعي بالضرورة من المخطط الاقتصادي التوقف والتأمّل طويلاً في هذه المفارقة المقلقة دون شكّ، والبحث سريعاً في العوامل المتسببة في حدوثه، ومحاولة وضع الحلول العاجلة له قبل أن تتفاقم الأوضاع إلى ما لا يمكن حينه ردم الهوّة السحيقة، المحتمل أن تترك خلفها آثاراً سلبية قد تتطلب لعلاجها وحلّها أضعاف ما تم إنفاقه خلال العقد الماضي.
إن إيجاد آلية لمتابعة ومراقبة ما تم إنجازه من تلك المشروعات والبرامج يُعد ضرورة قصوى في الوقت الراهن، كونها مرتبطة بتوجيهاتٍ قيادية عليا في البلاد من جانب، ومن جانبٍ آخر كونها ترتبط بمستويات التنمية المستهدف الارتقاء بها تلبيةً لاحتياجات المجتمع والوطن. نأمل جميعاً أن تتحقق لأجل المصلحة العامّة، ولكيلا تتعطل أو تتعثّر المشروعات والبرامج التنموية البالغة الأهمية، وحتى يتم إنجاز تلك المهام الموكلة كافّة إلى كل من الأجهزة الحكومية التنفيذية ومعها القطاع الخاص بالصورة المقررة، كما قد تقتضي تلك الآلية ــــ وهو ما يبدو مؤكداً ـــ مراجعةً وفحصاً شاملاً لكامل السياسات الاقتصادية الكلية للاقتصاد السعودي، ومعالجة الثغرات المحتمل وجودها، وكما تُشير مؤشرات القياس أعلاه فإنها مع الأسف مترسبة في صلب تلك السياسات الاقتصادية والبرامج التنموية.
أخيراً ترتقي أهمية الإسراع بتطبيق تلك الآلية والإجراءات التابعة، إلى دورها المأمول والواجب عليها من أجل منع أية احتمالات لتغلغل الفساد الإداري أو المالي في ثناياها بما قد يحوِّلها عن مسارها الأساسي الذي من أجله أٌقرّتْ من لدن القيادة الرشيدة في البلاد، وهو سيُفضي بالتأكيد إلى نتائج مؤسفة جداً، أو كوارثية كما حدث إبّان الأعوام الماضية في بعض المدن الرئيسة والمناطق النائية، كشفتْ لاحقاً عن تورّط عدد واسع من أطراف حكومية وفي القطاع الخاص في قضايا أو جرائم فساد مالية وإدارية فادحة، نتج ما نتج عنها من خسائر مادية وبشرية فادحة جداً، لم تتمكن حتى الآن الجهات الحكومية من إنهائها وإغلاق ملفاتها، وهو ما يؤكد على أهمية ما نطالب به اليوم إزاء هذه القضايا التنموية المحورية، وضرورة إخضاعها بالكامل دون استثناء لأعلى درجات الرقابة والمتابعة والشفافية واختبارات الالتزام بالمواصفات والمقاييس الموضوعة لتنفيذ جميع تلك المشروعات والبرامج.
المصدر: الإقتصادية