كاتبة سعودية
لا شك أنه أمر مؤلم ومحيّر حين تستيقظ يوماً وترى مَن تعيش بينهم لا يكترثون بالقوانين الإنسانية والفطرية، التي وضعت منذ بداية البشرية، حيث تشعرك تصرفاتهم وكأنك شاذ وغريب أو تعاني من خلل ما، تجد نفسك تتصادم وتختلف مع قناعاتهم أو في وجهات النظر، وستصاب بالإحباط حين ترى أنه أصبح يتحتم عليك أن تبذل مجهوداً أكبر للحفاظ على مبادئك والتمسك بها في زمن تساقطت فيه الأقنعة وقلّ فيه الوفاء، وغُيّبت فيه المروءة، ولم تبذل فيه أي مجهودات لبقاء أي أثر للكرامة الإنسانية، وستصادف في الطريق الشائك ما ستُدمَى منه قدماك بسبب تعمد إلقاء الأشواك والعراقيل في كل طريق تسلكه، لتجبر على السقوط وتغمس يدك بالوحل لتصبح (مثلهم)، لأن نظافة يدك وقلبك باتت تزعج كثيراً من (الأوغاد) في محيطك، فتجدهم يتشكلون في مجموعات متفرقة أو بشكل فردي يخدم في النهاية نفس الهدف، إحباطك أو تدميرك ذاتياً بالضغط على زر ضعفك لتقوم أنت بإكمال المهمة، تتغير طرقهم، وتتلون عباءاتهم على حسب الموقف، يحاصرونك من جميع الاتجاهات، لتبدأ بالكذب مضطراً أو ( هكذا تبرره لنفسك) على أنه أبسط الأذى إلى أن تستسيغ طعمه وتدمنه، فتتجاوز تلك المرحلة بعد أن تصدق كذبك، وتبدأ بمحاسبة مَن يشكك في صحة كلامك، وتبالغ في ردة فعلك لتقتص من كل مَن يشكك في كذبتك الكبرى، التي تقودك دون أن تشعر إلى جرائم أكبر تتعدى خيانة الأمانة والسرقة والتسبّب في الموت، لتكون النهاية انعداماً تاماً للإيمان، الذي يموت في قلبك ولا تعرف منه سوى اسمه، ستستمر تلك الثلة بسحبك إلى قطيعهم لتعيش معهم كالرعاع لا دين يحكمهم ولا عقيدة تردعهم، دون مبادئ أو كرامة أو قيم يُرتكز عليها، فلا يحسبون حساباً لغضب الله تعالى، بل يرتدون عباءات مختلفة تفوح منها رائحة سواد قلوب متفحمة، يزيد من عتمتها ( تبرير) مزيدٍ من الأوغاد، و(سأتوقف عند هذه النقطة) وأبدأ حكاية جديدة.
ظهر سائق آسيوي بجوار حافلة صغيرة للمشاوير متوقفة بجوار مدرسة، ثم خرجت طفلة لا تتجاوز السابعة من العمر، تركض نحو الحافلة، وقبل أن تصعد إليها التقطها السائق ليسدد لها صفعة على وجهها كنوع من التوبيخ أو التأديب، تلقتها سريعاً على وجهها البريء، لتصعد إلى الحافلة مسرعة دون أن تُظهر أي ردة فعل سلبية تجاه ما فعل، وبعد أن أعدت المشهد مراراً وتكراراً شعرت بأنها ليست المرة الأولى التي تتعرض لها الطفلة للضرب بسبب ردة فعلها السلبية، واحتمال أن يكون تفكير الصغيرة صوّر لها أنه أمر عادي أو جزء من طفولتها أن تتعرض للضرب والتوبيخ، ولن تفكر أبداً بأن ذلك يصنف ضمن قضايا العنف الذي يمارسه بعض السائقين ضد الأطفال في مجتمعنا، وجدت تساؤلات عديدة تكدست في رأسي تريد إجابة، كيف سمح هذا السائق لنفسه أن يمد يده على الفتاة ؟ وما الذي جرّأه عليها ؟، وهل في الأساس كان يحسب حساباً لسلامتها أو لوالديها ؟ وهل اعتاد السائق أن يرى والدها في كل رحلة ؟ هل يوصيه بها ؟ هل يشاهد أحد أفراد أسرتها بشكل يومي؟ هل هناك مَن يقلق عليها إذا تأخرت أو أصيبت بأذى ؟! وهل اعتادت على مصارحة أبويها؟.
والصفعة التي عجزت عن ابتلاعها، الصمتُ الذي لفّ الحادثة من قِبل وزارة التربية والتعليم، وأهل الطالبة، والتجاهل التام الذي عهدناه من الإعلام التقليدي، الذي لا ينبه المجتمع إلى هذه الورقة من ملف العنف ضد الأطفال، الذي امتد من الخادمة المنزلية إلى السائق، وربما أيضا لأن الفتاة ليست ثرية، ويبدو عليها أنها متوسطة الحال، لأن الأثرياء ينقلون أبناءهم بسيارات خاصة، والمدارس الحكومية من الأساس أصبحت خدماتها مترهلة، وتعلن الفقر والعجز في أكثر من مناسبة، ولم ينتشر المقطع، الذي لا يتجاوز الثواني، إلا على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث أسعدني وعي بعض أفراد المجتمع، الذي أعاد نشره، ليوثق معلومات السائق من رقم لوحة حافلة التويوتا البيضاء، إلى رقم الجوال المكتوب على الزجاج الخلفي، الذي (أرسلته بدوري لإدارة الصحيفة) لعل وعسى أن أجد مَن يقتص لها ويأخذ حقها، والمحبط عدم تسجيل أي ردة فعل من أي مسؤول بملاحقة السائق أو استدعاء كفيله أو إخبار ولي أمر الفتاة. كنت أطمح أن تتخذ وزارة التربية والتعليم موقفاً إيجابياً، وأن تساند أهل الفتاة بتقديم شكوى للجهات الرسمية لملاحقة السائق، وتجريم فعلته، لكي تعلم تلك العمالة أن القانون لا يقبل الاستهتار من أي فرد، دون منحه فرصة أو ضمه للعمالة، التي سيصحح وضعها إذا كان من المخالفين، ولكن مع الأسف اعتادت الوزارة على اختيار الدور السلبي أمام عديد من القضايا التي تخصها، فهل ستهتم من أجل طفلة !.
وأغلب الآباء الذين يضعون أبناءهم على قمة أولوياتهم سيشعرون بالقلق، وكأن تلك الطفلة ابنتهم، وسيهمهم اتخاذ موقف إيجابي لكيلا تستمر ظاهرة إساءة الأدب في التضخم بالمجتمع، ولو افترضنا أن أهل الطفلة لا يكترثون، فمن الواجب أن تحميها الدولة، وتقتص لها، وتطالب بالحق العام، ومع أن التفاصيل تختلف إلا أن ذلك المشهد أعاد إلى ذاكرتي قضية السائق الذي (اضطرت) إحدى الأسر لمسامحته والتستر على جريمته بعد أن اعتدى جنسيا على ابنهم ذي السنوات الست، الذي كان يدرس في الصف الأول الابتدائي آنذاك، حيث اكتشفت الأم الجريمة بالصدفة في أحد الأيام، وثارت حتى سمعها الجيران، وبعد أن هدأت أخذت تبرر لهم أنه يعز عليها أن ترحّله إلى بلاده لأنه خدم لديهم أكثر من 11 سنة، بل وأشادت بأخلاقه وحسن عمله، وحين اصطدمت بردة فعل عنيفة من إحدى جاراتها، بررت أنها (مضطرة)، ولقد كان الخلل جلياً منذ البداية حين تخلّى الأب عن دوره المحوري وتنازل عن مروءته لرجل آخر، ومنحه الحق بالعبث بأسرته. ستظل زمرة (الأوغاد) تحاصرك لتغمر يديك في الوحل، فتذكر أنه مهما خدعك لون عباءاتهم فلن يصعب عليك تمييز رائحة العار في أخلاقهم !.
المصدر: صحيفة الشرق