خاص لـ هات بوست:
أود أن أتناول موضوع استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الإبداعي، لا من جانب النتاج الذي قُتِل بحثًا، فقد أمكن للذكاء الاصطناعي بالفعل مجاراة ومحاكاة الإبداع الإنساني في الكتابة والرسم والموسيقى والتصميم… إلى آخره من المجالات، وكل يوم يطالعنا المزيد، والمقارنات لا تهدأ، والخوف من الخطر والتهديد وفقد الوظائف لا يستكين.
لكن ما أود الحديث عنه هو فعل الإبداع ذاته، أيًّا كان، كحاجة إنسانية خالصة، كفعل تشافٍ وتعافٍ واستقرار نفسي ونمو قيمي ومعرفي وثقافي مستمر.. الاستسلام لتفوّق النتاج الإلكتروني مهما بلغ، يشكّل كارثة حقيقية في هذا الجانب الفائق الحساسية والأثر.
ثم إنني لا أدري عن غيري، لكن الشيء يفقد قيمته في نظري، واستشعره بلا روح ولا حياة، إذا كان من صنع الـ AI؛ لا أرغب في قراءة مقال أو رواية أو كتاب – أيًّا كان موضوعه – من هذا النتاج. أنظر إلى الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا إجمالًا كوسيلة فعّالة ومساندة، لا كمصدر تهديد وإحلال أو “احتلال”.. بالذات وأكثر في الجانب الإبداعي، الذي هو وسيلتنا لنقول إننا بشر ولدينا إحساس وشعور وأسئلة وقلق وجودي يُترجَم على هيئة فن وبصمة وفعل وجداني وقول في كافة فروع الأدب ودوائره.
أسّس والدي في العاصمة أبوظبي مطلع السبعينات مصنعًا رائدًا للنسيج وحياكة البشوت، استورد لأجله مكائن وتكنولوجيا من أوروبا واليابان، دون أن يشعر بأي تهديد للصنعة التراثية من هذا الفعل المساند. لكن عندما عاد شقيقي الأكبر من الولايات المتحدة وعكف على ربط الجانب الفني للبشت، من تصميم وتطريز وزري ذهبي وفضي، بالكمبيوتر، ونجح في إنتاج ما اصطلح على تسميته بـ “بشت الكمبيوتر” بتطاريز فائقة الدقة والإتقان وفي زمن قياسي يتيح إنتاجه بكميات تجارية، حزن والدي لدهشتنا، وأعرب عن قلقه على مهنة الأجداد والحرفة التراثية التي تستغرق الكثير من الصبر والجهد والوقت والحرفية العالية.
لكن الواقع والزمن أنصفا البشت اليدوي، وما زال يقدَّر ويباع بأعلى الأثمان، بينما أخذ بشت الكمبيوتر حجمه ومكانته المنطقية، وثمنه الاقتصادي الملائم.
واليوم فاز مَن لم يخشَ تهديد الآلة، ولم يتهاون أو يتقاعس، وحافظ على فنه وحرفيته وندرة أنامله الإنسانية.
شهدنا بالأمس القريب إدراج “البشْت” على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو لعام 2025، وهو حدث نحتفي به في الإمارات وسائر دول الخليج والوطن العربي، حيث يُعدّ البشت رداءً يختص به الرجل، يرمز لأناقته ومكانته وحفاظه على تراثه وأصالته.
يسلّط هذا الإدراج الضوء على المكانة الثقافية للبشت والتزام دولة الإمارات بحماية تراثها الثقافي غير المادي، ويذكّرنا جميعًا بحقيقة أن الإبداع الإنساني هو التحفة الباقية، وأن الزمن كفيل دائمًا بإثبات ما الزبد الذي يذهب جفاءً، وما الذي ينفع الناس ويمكث في الأرض.
