كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة
يقول أفلاطون إنه لا يعرف معنى العدالة، ولكنه يعرف معنى غياب العدالة.
ربما يبدو هذا مدخلاً فلسفياً مناسباً للحديث عن الظلم، لكن الفلسفة قد لا تكون هي المدخل الصحيح للحديث عن هذا الموضوع، ذلك أن المظلوم عادة ما يفكر في أشياء كثيرة عندما يتعرض للظلم، ليس من بينها الفلسفة، مع كل الاحترام والتقدير للفلاسفة العظماء، منذ فجر التاريخ حتى اليوم.
وبرغم أن «الظلم من شيم النفوس»، كما يقول شاعر العربية الكبير أبو الطيب المتنبي، إلا أن قليلاً مِن البشر مَن يعترف بأنه ظلم ذات يوم نفساً بشرية، أو طيراً، أو حيواناً، أو حجراً، ذلك أنه حتى الظالم يشعر بفداحة هذا الفعل، ويحاول إبعاد نفسه عنه.
ومع هذا فقلّ أن تجد مَن لم يباشر هذا الفعل بشكل من الأشكال، إلى درجة أن الإنسان قد يظلم نفسه أحياناً على حساب مراعاة مشاعر الآخرين، وتقديم مصلحتهم على مصلحته، إما لإحساسه بالمسؤولية عنهم، أو لتقمصه دور المخَلِّص الذي عليه أن يضحي من أجل الآخرين، مقدماً نفسه قرباناً على مذبح الفضيلة.
الإحساس بالظلم شعور ينشأ عند الإنسان منذ الطفولة، فالطفل يشعر بأن والديه يظلمانه عندما يحرمانه من اللعب طوال اليوم، ويحددان له وقتاً للدراسة.. وآخر للعب.. وثالث للنوم.. وهكذا.
والشاب يشعر بالظلم عندما يمنعه والداه من البقاء خارج المنزل حتى أوقات متأخرة من الليل، والفتاة تشعر بالظلم عندما تتدخل والدتها في اختيار ملابسها، وتحرص على معرفة من تصاحب من زميلاتها في المدرسة، وتسأل عن أسرهن، وتتحرى عن أخلاقهن وسيرتهن.
ثم ينتقل هذا الشعور عند الوصول إلى مرحلة الدراسة الجامعية، فيتدخل الأهل في اختيار التخصص الذي سيدرسه الأبناء، ومدى ملاءمته لوضع الأسرة، فالطبيب يختار لأبنائه دراسة الطب، والمهندس يوجه أبناءه إلى دراسة الهندسة، والمحامي يوجه أبناءه إلى دراسة القانون.. وهكذا، بغض النظر عن حب الأبناء هذا التخصص، ورغبتهم في دراسته من عدمها.
وتكون قمة الشعور بالظلم عندما يكون للأهل الرأي الأول والأخير في اختيار الزوجة للابن، أو الزوج للبنت، عندها تصبح الحياة جحيماً لا يطاق، إذ يمثل هذا التدخل قمة الأنانية والظلم، من وجهة نظر الأبناء.
هكذا تتكون منظومة الظلم عبر مراحل العمر المختلفة، وتنتقل مع الإنسان من مرحلة إلى أخرى، تبدأ مثل دائرة صغيرة على وجه بحيرة راكدة، ثم تكبر شيئاً فشيئاً، مكونة حولها دوائر كثيرة، حتى تغطي سطح البحيرة كله.
لذلك حين يشكو الموظف من ظلم المسؤول له، فهو إنما يستعيد سيرة بدأت معه منذ الصغر، ورافقته في كل مراحل حياته، لتصل إلى محيط الوزارة.. أو الدائرة.. أو الشركة.. أو المصنع.. أو حتى البقالة التي يعمل فيها، ليصبح المسؤول أو صاحب العمل، هو الظالم الأكبر في هذه الحياة، ويصبح الموظف، أو العامل، هو المظلوم والضحية المسفوح دمها، المهدرة حقوقها.
هل يشعر الظالم بأنه يظلم بالقدر نفسه الذي يشعر به المظلوم عندما يتعرض للظلم؟ ربما يبدو هذا السؤال هو الآخر فلسفياً تنظيرياً أكثر منه واقعياً.
فحين يوقفك شرطي المرور، على سبيل المثال، في الشارع، بتهمة قيادة سيارتك بطيش وتهور، وتعتقد أنت أنك لم تقد سيارتك بطيش وتهور، وإنما حاولت أن تتفادى سيارة أخرى كانت على وشك أن تصطدم بك.
هنا يصبح للعدالة وجهان؛ وجه يراه شرطي المرور ولا تراه أنت، ووجه تراه أنت ولا يراه شرطي المرور الذي يخرج دفتره لمخالفتك، ويصبح القاضي، بعد أن تُحوَّل القضية إلى المحكمة، هو الفيصل الذي يحكم بين ما يراه الطرفان.
برغم أنه لم يشهد الواقعة، ويصبح تقرير شرطي المرور ودفاعك أنت عن نفسك هما ما يوجه كفة ميزان العدالة، وإلى أي ناحية تميل؛ إلى ناحيتك أنت الذي تعتقد يقيناً أنك مظلوم، أم ناحية التقرير الذي أعده شرطي المرور الذي يعتقد هو الآخر يقيناً أنه لم يظلمك.
لهذا، فإن القضاة يتعرضون لضغوط نفسية كبيرة وهم يصدرون أحكامهم محاولين تطبيق العدالة، ولذلك فإننا كثيراً ما نسمع كلمة «ضمير المحكمة» تتردد أثناء النطق بالأحكام من قبل القضاة الذين يصدرون الأحكام، قائلين في بداية النطق بها «وقد استقر في ضمير المحكمة»، كي يبعدوا عن أنفسهم شبهة الظلم التي قد تلصق بها.
والاحتكام إلى الضمير، في رأينا، ربما يكون وسيلة للشعور بالراحة، لكنه ليس الوسيلة التي تحقق العدالة القطعية، ومن هنا كان الحديث النبوي الشريف «قاضٍ في الجنة، وقاضيان في النار».
وتعبير «قاضٍ» يصدق على كل من يكون بيده إصدار حكم يرجح كفة على كفة، مثل شرطي المرور.. والمدرس.. والمدير، وغيرهم ممن تترتب على أحكامهم نتائج يستفيد منها طرف، ويتضرر طرف.
العدالة تاج يسبح في فضاء من الأحكام المختلفة، يحاول كل حكم منها أن يضع هذا التاج على رأسه، وقليل من الأحكام من يحظى بارتداء هذا التاج، مثلما هم قلة أولئك الذين يستطيعون توجيه هذا التاج الوجهة الصحيحة.
القضاة صنف منهم، وهناك أصناف كثيرة تؤدي أدواراً تشبه أدوار القضاة، حتى لو لم تحمل أسماءهم، فهل عرفنا بعد هذا كله معنى العدالة؟ أم أننا لم نعرف معناها، وإنما عرفنا معنى غيابها؟
سؤال يبدو هذه المرة واقعياً، لا علاقة مباشرة له بالفلسفة، حتى لو كان طارحه هو «واسع الأفق» أفلاطون.
المصدر: البيان