كاتب سعودي
على الرغم من تحوّل الثورة الإسلامية الإيرانية – ظاهرياً – من الحالة الثورية، حالة الحراك المتأسلم الغاضب، إلى حالة الدولة بكل ما يستلزمه ذلك من اشتراطات عملية؛ إلا أنها لا تزال تمارس مهامها السيادية وكأنها حركة معارضة ثورية تُناضل للوصول إلى السيطرة على المجتمع من خلال السيطرة على مؤسسات الحكم.
ولعل هذا هو سبب بقائها في حالة غضب واعتراض وقفز على مسلمات الدولة القطرية. وإذا كان أوليفيه روا يؤكد أن “الإسلاموية هي خطاب احتجاج، وتكيّف، أي أنها، بالتالي، خطاب انتقالي. فثمة مسلمون سعداء، ولكن ما من إسلاموي واحد سعيد”(تجربة الإسلام السياسي، أوليفيه، 189)؛ فالواقع أن حكومة إيران لا تزال حركة احتجاج، لا تزال تحكم وكأنها تعيش مرحلة انتقالية لا تنتهي، ولا أحد ينكر أنها غير سيعدة بواقعها؛ على الرغم من كل ما تحقق لها من هيمنة قلّ نظيرها في الداخل الإيراني، فضلاً عن التقدير الذي حظيت به من لدن حركات التأسلم، على الأقل في سنواتها الأولى.
إن إيران تجسّد واقع الإسلامويات التي لم – ولن – يقف تطلعها السلطوي عند حدود السيطرة على الدولة القطرية. طموح الإسلامويات يتسع باتساع هذا العالم كله. هذا ما أكده الخميني، وطالقاني، ومن قبلهما البنا، وسيد قطب، ومحمد قطب الذي كان كلامه عن (قيادة العالم) لازمة من لوازم خطابه في كل مراحله الفكرية. أي ان مرحلة الوصول إلى حكم الدولة القطرية ليست إلا مرحلة من جملة مراحل تتغيا الهيمنة على العالم كله بإقامة الإمبراطورية الإسلامية العالمية، التي يقف على رأس هرمها عند الإخوان/ السنة: (الخليفة)، وعند الإيرانيين/ الشيعة: (الولي الفقيه). وهذا ليس تنبؤاً أو استشرافاً أو تحليلاً مظنوناً، وإنما هو صريح أقوال سدنة هذا الخطاب الإسلاموي: السني والشيعي، الذي يصدر عن تصور واحد، يكاد – رغم كل صور الاختلاف المذهبي – يكون متطابقاً، بل يتطابق تماماً في مجالي: السياسة والأخلاق.
إن رجالات الثورة الخمينية كانوا تلاميذ مباشرين أو غير مباشرين للأفكار الإخوانية قبل الثورة بسنوات طويلة. وقد كان لأطروحات سيد قطب أعمق الأثر في كثير من الحركيين الإيرانيين الذين كان لهم دور في إشعال الثورة. وربما كان لرمزية (الاستشهاد) النضالي دور في هذا التعالق المضاميني، حيث نهاية سيد قطب المأساوية تحمل طابع التضحية الحسينية التي لها قُدسيتها العالية في الضمير الإسلامي عامة، وفي الضمير الشيعي منه خاصة؛ حيث التضحية الاستبسالية النضالية من أجل تصحيح مسار التاريخ.
لم يتسرب التأثير الإخواني إلى الإيرانيين عبر قنوات جانبية، ولا عبر رموز هامشية. بل كانت المثاقفة تجري على أعلى المستويات. وفي هذا السياق، لا ننسى أن المرشد الحالي الخامنئي هو من أهم المترجمين لكتب المفكر الإخواني الأبرز سيد قطب إلى الفارسية.
والأمر يتعدى احترافية الترجمة إلى التماهي العميق الذي بدا واضحاً في تراث طلائع الحركية الإيرانية المتأسلمة. وكي نرى مستوى تماهي هذه الرموز الإيرانية مع الأطروحات القطبية، ما علينا إلا أن نقرأ مقدمة خامنئي لترجمة كتاب (المستقبل لهذا الدين) والتي كتبها عام 1966م، حيث يبدو خامنئي متطابقاً مع أفكار سيد قطب. يقول في هذه المقدمة: “هذا الكتاب – رغم صغر حجمه – خطوة رحبة فاعلة على هذا الطريق الرسالي. مؤلفه الكريم الكبير سعى بهذا الكتاب في فصوله المبوبة تبويباً ابتكارياً أن يعطي أولاً صورة حقيقية للدين” ص76 ويقول: “الكتب الأخرى للمؤلف المفكر المجاهد يشكل كل منها خطوة على طريق توضيح معالم الرسالة الإسلامية”(الإخوان المسلمون وإيران، محمد سيد رصاص، بتصرف من ص70 ص77). وبكل وضوح، نرى أن هذه كلمات لا تعبر عن التطابق فحسب، وإنما عن الإعجاب، بل والانبهار، ولن يستطيع أي قطبي في العالم الإسلامي أن يمتدح سيد قطب بأكثر من هذا المديح الذي كتبه الخامنئي قبل الثورة الخمينية بثلاثة عشر عاماً.
هذا يؤكد أن التواصل الإيراني – الإخواني الراهن، لم يأت فجأة، بل له امتداده في التاريخ الفكري والحركي. العلاقة أوثق وأرسخ من أن تكون تصريحات عابرة، أو مجاملات تطفو على سطح المؤتمرات الظرفية. العلاقة قديمة وعميقة، ولعمق هذه العلاقة وقدمها، ليس غريباً أن نجد شوارع في طهران بأسماء: سيد قطب، وخالد الإسلامبولي، والشيخ كشك(إيران، دراسة عن الثورة والدولة، وليد عبدالناصر ص87)، فهذه الأسماء وإن لم تكن كلها إخوانية، إلا أنها تمثل تجليات الإسلاميوية الإخوانية في خطها الفكري العام. وترسيخها في الذاكرة الإيرانية عبر تسمية الشوارع بها، يؤكد أن مسألة التواصل الثقافي ليست ظرفية، وليست من باب المجاملات الحركية، بل هي قناعات فكرية لها طابع المنهج الدائم الذي يحكم مجمل المسار الإيديولوجي.
كثير من الدارسين للنظرية السياسية الشيعية، يؤكدون أن أطروحة الخميني عن (الحكومة الإسلامية) عبر (ولاية الفقيه) هي تطوير للنظرية السياسية الشيعية باتجاه النظرية السياسية السنية. فالولي الفقيه – منصباً وصلاحيات – ليس إلا الخليفة في التراث السني؛ رغم كل المبررات المذهبية الخاصة، فالعبرة في النهاية ليست بالمبررات التي تحاول شرعنة واقع ما، وإنما بالواقع المشرعن، وهو هنا واقع ’’المنصب’’ من ناحية الصلاحيات والوظائف. يقول محمد رصاص: تأثر الخميني في كتابه (الحكومة الإسلامية) الذي وضعه عبر دروس ألقاها عام 1970 بنظرية الحاكمية التي قدمها المودودي، وسرت إلى الحركة الإسلامية المعاصر عبر سيد قطب. سيد قطب رأى أن تطبيق (حاكمية الله) يتم عبر (الطليعة)، والخميني رأى أن ذلك يتم عبر (ولاية الفقيه) الذي يتولى أمر الحكومة الإسلامية (الإخوان المسلمون وإيران، محمد سيد رصاص، ص36). ومن الواضح أن المقصود في كلا طرفي التأسلم: السني والشيعي، أن يحكم المتأسلمون بذريعة تطبيق (حاكمية الله)، فهم وحدهم – وفق ادعائهم الصريح أو الضمني – المؤتمنون على هذا التطبيق.
وباختصار، يرى محمد سيد رصاص، الذي خصص لهذه العلاقة الإيرانية – الإخوانية الوثيقة كتاباً خاصاً، أن (المشتركات) بين الإخوانية والخمينية تتلخص فيما يلي:
1 النظر إلى الحراك الغربي، العسكري والثقافي، بوصفه مؤامرة على بلاد الإسلام.
2 نزعة أصولية تجمع الأربعة (البنا والمودودي وسيد قطب والخميني)، ترى أن هناك نقطة بدء هي الأصل، وكان الزمان مسيرة انحراف عنها، وعلى المسلمين العودة إليها.
3 يشتركون في تصميمهم على مقاومة عوامل الزمان وانحرافاته.
4 التنظيم والكفاح السياسي هو الطريق إلى إعادة إحياء الأصل الإسلامي (وطبعاً، كلاهما يرى أن هذا الأصل الإسلامي لم يوجد إلا كحالة نادرة جداً في الواقع، وأن التراخي الإسلامي كان انحرافاً متواصلاً عن هذا الأصل).
5 الإسلام صاحب رسالة عالمية ومؤهل لقيادة العالم.
6 عداء شديد عند الأربعة لليهود وإسرائيل.
7 العداء للنزعة القومية، واعتبار الإسلام هو الرابط بين المسلمين.(ص79 وما بعدها).
هذه هي المشتركات التي تتكرر عند الإخوان وعند رموز الثورة الخمينية؛ وفق رؤية محمد رصاص، بينما يرى أن بينهم اختلافات، لعل أهمها:
1 اختلاف حول مضمون الإسلام، فهو عند البنا سني وعند الخميني شيعي، ولكن دون نزعة مذهبية واضحة عند البنا “هناك إشارات متعددة عند الخميني إلى الفرق الكبير بين (مسلمين) و (مؤمنين)، انسجاماً مع اعتقاد الشيعة بأن الإيمان بولاية الأئمة ركن من أركان الإيمان بالإسلام”. بينما عند المودودي وقطب التفرقة تكون بين مسلمين وغير مسلمين.
2 عند حسن البنا هناك تدرج في الوصول للهدف، بينما عند الخميني هناك نزعة (ثورية انقلابية)، وهذا ما يشترك فيه الخميني مع سيد قطب، وربما كان سبب انجذاب الخميني والخامنئي إليه (الإخوان المسلمون وإيران، محمد سيد رصاص، ص 84،85).
إذاً، المشتركات أكثر وأعمق من نقاط الاختلاف، أو على نحو أدق، نلاحظ أن دور المشتركات أكثر عملية وأشد ارتباطاً بالواقع العملي. وحتى بعض نقاط الاختلاف، لا يختلف معها كل الإخوان، ولا الإخوان في كل تاريخهم. ما يعني أن الأصل هو تشابه في أنماط التصور، وفي البنى التنظيمية، وفي الوظائف والممارسات، بل وفي الأهداف المرحلية والاستراتيجية، ابتداء من محاولة الإمساك بوسائط الهيمنة الجماهيرية، فالسلطوية، وانتهاء بالهيمنة على العالم: حكم العالم/ أستاذية العالم!.
من هنا، لم تكن حكومة رجال الدين في إيران إلا صورة من صور الأصولية الإخوانية في السلطة. أقصد، لهذا السبب تبدو وكأنها أقل من دولة، وأكبر من حركة. شيء ما، في الحكومة الإيرانية يشدها كحكومة إلى ممارسات المعارضة، بقدر ما أن ثمة شيئاً يشدها إلى التعقّل؛ وفاءً لشرط الأداء الحكومي. وعلى هذا يمكن أن نفهم الأزمة السياسية الإيرانية التي تحدث عنها وليد عبدالناصر، عندما قال: “تبقى المعادلة الصعبة التي يصعب التخلي عن أحد طرفيها: تحسين علاقات الحكم الإيراني بالدول الإسلامية الأخرى، واتصالاته بالتيارات الإسلامية الراديكالية المعادية للنظم القائمة بهذه الدول(إيران، دراسة عن الثورة والدولة، وليد عبدالناصر، ص77). فالإيديولوجيا التي نهضت عليها الرؤى الثوروية الإيرانية تنتمي انتماء أصيلاً إلى عالم هذه الحركات الراديكالية المعادية للنظم الحاكمة، بينما الاشتراط السياسي للدولة الإيرانية كدولة قطرية يفرض عليها أن تكون على علاقة بهذه النظم التي تدخل معها هذه الحركات الإسلامية في صراع خشن أو ناعم.
طبعاً، لا حل لهذه المعضلة، التي هي معضلة سياسية من جهة، وإيديولوجية من جهة أخرى؛ إلا بوصول الحركات الإسلامية الراديكالية إلى الحكم. حينئذٍ؛ يختفي التعارض، وتكون السياسية الإيرانية متصالحة مع نفسها، أي تستطيع أن تكون وفيّة لإيديولوجيتها من جهة، ووفيّة لبُنْيتها – كدولة قطرية – من جهة أخرى.
ومن المؤكد أن أي خطوة في هذا الاتجاه (وصول الحركات الإسلامية الراديكالية إلى الحكم) ستقف إيران معها بكل قوة. وهذا ما حدث فعلاً، إذ كانت إيران أول المهنئين بفوز مرسي بانتخابات الرئاسة، وقد وصلت حدود الترحيب إلى سقوف احتفالية؛ حسب وصف محمد رصاص. وهذا ليس بدعاً، فالعلاقة تقابلية في وفائها؛ إذ يتذكر الجميع كيف احتلت صورة الخميني غلاف مجلة (الدعوة) مجلة الإخوان الصادرة في مارس 1979م، وكيف أن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين أعلن تأييده للثورة الخمينية، بل وقرر التوجة لطهران مع وفود الحركات الإسلامية لإعلان التضامن.(الإخوان المسلمون وإيران، محمد سيد رصاص، ص7، 95).
المصدر: الرياض أون لاين