الأوروبيون لا يرون أنفسهم أمة مهاجرين، بل دول قومية ذات هويات مغلقة. صحيح أن الدول التي ترى أنفسها «أمة مهاجرين» كدول العالم الجديد، مثل كندا، والولايات المتحدة، صنعت هوية عرقية/دينية صلبة، باعتبار المهاجرين المؤسسين للدولة مسيحيين، من المذهب البروتستنتي، وأنجلوسكسون، إلا أن سردية الهجرة أسهمت -أحياناً- في قبول أشخاص من أديان وأعراق مختلفة، ولو بشكل محدود. أو في تبني سياسات تعددية تتيح للمختلفين ثقافياً ممارسة اختلافهم بشكل علني في سياقات معينة. من دون أن يعني هذا عدم وجود إشكالات متعلقة بالهوية في هذه البلدان. لكن تجلي هذه المشكلات أقل حدة منه في أوروبا بالنسبة إلى العرب والمسلمين.

إشكالات الهوية متضخمة في أوروبا؛ بسبب التناقض الشديد بين تدفق المهاجرين إلى أوروبا من ناحية، وبين الرغبة بالحفاظ على طابع ثابت لهوية وطنية فرنسية، ألمانية..الخ من ناحية أخرى. الهوية الأوروبية قائمة على الرغبة بإخضاع الآخر لشروطها، أكثر من التعايش معه.

الرغبة بالحفاظ على هوية مغلقة مصمتة للدولة أصبح متضخماً في أوروبا، على رغم كون فرض هوية من الدولة سمة للدولة الحديثة عموماً. الإشكال في حالة أوروبا في أمرين، الأول: يطرحه المفكر محمد عابد الجابري في سياق تحليله للتصويت على منع المآذن في سويسرا، إذ يؤكد الجابري أن الفلسفة الأوروبية فلسفة هوية قائمة على «الأنا»، وأن الغيرية في الفكر الأوروبي قائمة على «السلب» و«النفي» للآخر. ومن ثم سيفشل أي توجه لاعتماد نموذج «التعددية الثقافية» في الدول الأوروبية، فلا مجال إلا لهوية وطنية واحدة.

الإشكال الآخر، أشار إليه ميشيل لودرس في كتابه «في ظل الله»، عندما تحدث عن الإسلاموفوبيا في ألمانيا، إذ يرى أن من أهم محددات الهوية الأوروبية أنها تأثرت بشكل حاسم بالحروب الصليبية في لحظات تكوينها الحديث، وهو ما جعل التميز والاختلاف عن الإسلام عامل مكون للهويات في أوروبا. فالإشكال مضاعف عند الحديث عن الإسلام، باعتباره «أخَّر» أوروبا تاريخياً، وفي ظل صراعات دينية عسكرية دموية.

في عام 2010 حدث جدل عاصف في ألمانيا، لا يمكن قراءته خارج فكرتي «نفي الآخر» كأبرز مكونات الهوية الأوروبية، و«التمايز عن الإسلام» كمنتج للحروب الصليبية. إذ شهدت ألمانيا نقاشات حادة على إثر تصريح للرئيس الألماني كريستيان فولف، إذ قال إن «الإسلام أصبح جزءاً من ألمانيا». جاءت ردود الفعل مناقضة ورافضة لهذا التصريح من رئيسة الوزراء الألمانية أنجيلا ميركل، إذ أعلنت لاحقاً كرد على تصريح الرئيس فشل النموذج الألماني في «التعددية الثقافية». وعزز رئيس الحزب المسيحي المحافظ هورست زيهوفر من حديث ميركل، إذ أعلن بشكل حاسم موت نموذج التعدد الثقافي «نحن في الحزب المسيحي المحافظ ندافع عن الثقافة الألمانية، التي يجب أن تكون هي السائدة في وجه التعدد الثقافي. التعدد الثقافي مات ودُفن». هذه الأزمة مستمرة، وتترجم في ألمانيا على شكل مظاهرات ضد الإسلام والمهاجرين اليوم.

كما تظهر هذه الأزمة تجاه المسلمين على شكل استهداف يومي جماعي للمسلمين في ألمانيا من الإعلام. يشير هنا ميشيل لودرس إلى التعامل مع جرائم القتل كمثال على هذا الاستهداف والتمييز ضد المسلمين؛ فعند حدوث جريمة قتل ينفذها رجل ضد زوجته، فإن كان القاتل غير مسلم، يتم تصوير الجريمة باعتبارها «مأساة عائلية» أو «قتل بدافع الغيرة». بينما في حالة تنفيذ الجريمة من مسلم، فإن الصحافة الألمانية تحيل مباشرة إلى مسألة «جرائم الشرف»، وهو ما يجعل المتهم في الجريمة ثقافة وجماعة بعينها، لا شخص مرتكب الجريمة منفرداً.

الوضع لا يختلف كثيراً في فرنسا عنه في ألمانيا، بل تظهر الأزمة بشكل أكثر صراحة على مستوى الدولة الفرنسية؛ إذ تم اعتماد دمج المهاجرين أو «فرنستهم» كإستراتيجية وطنية، وتم إنشاء وزارة «الهجرة والاندماج والهوية الوطنية والتنمية المشتركة»؛ لحفظ الهوية الفرنسية.

صعود اليمين الفرنسي جعل مغازلة الشعور الوطني الفرنسي والحديث عن تهديدات المهاجرين خبزاً يومياً للسياسيين في فرنسا من كل الأطياف. حتى بات التمييز بين اليمين واليسار في هذه المسائل صعباً عند الحديث عن الخطوط العريضة.

يرى الكاتب الفرنسي فنسان جيسير أن المخاوف من الإسلام في فرنسا يتم تغذيتها من خلال خطاب إعلامي يتسيده مسلمون عرب، يطرحون أنفسهم كخبراء في الشأن الإسلامي، وكل ما يقومون به هو اللعب على وتر «الإسلاموفوبيا»، ورسم صورة عن الإسلام مليئة بالتهيؤات والرعب؛ من أجل الحفاظ على علاقتهم بالمؤسسة الأمنية الفرنسية وتبرير وجودهم كخبراء. هؤلاء، إضافة إلى من يسميهم جيسير «المثقفون الجدد» يغذون الهوس ضد الإسلام بتجاهل المسلم العادي والإسلام المعاش يومياً في فرنسا، لمصلحة إسلام متخيل، يخدم هؤلاء في معركتهم الآيديولوجية ضد «الإسلاموية» أو الإسلام السياسي.

الإسلام أصبح جزءاً من أوروبا، وأعداد المواطنين الأوروبيين من خلفية ثقافية إسلامية في تزايد مستمر، وهو ما يعني أن محاولات الإنكار والإصرار على هوية أوروبية تنفي حق المسلمين بإظهار هويتهم سيعقِّد الوضع في أوروبا أضعاف ما هو عليه الآن. حالة الرفض والإنكار الحالية تجعل صعود اليمين المتطرف في أوروبا مسألة وقت لا أكثر، قد ينتهي هذا الصعود بصراع معلن عنصري ومباشر ضد المسلمين هناك، على غرار صراع النازيين مع اليهود، صراع مباشر يجعل المظاهرات والاعتداءات التي تحدث الآن ضد المسلمين مجرد بدايات. الحل الآخر هو الاستسلام لنموذج التعددية الثقافية والقبول بأن يكون الإسلام مكوناً للهوية الأوروبية. وهذا ما يبدو بعيد المنال على الأقل في الوضع الحالي.

المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Badar-Al-Rashad