جمال الشحي
جمال الشحي
كاتب و ناشر من دولة الإمارات

الإعلام الذي نملكه… ولا نفهمه

آراء

خاص لـ هات بوست:

مشكلة الإعلام اليوم ليست أنه سيئ، بل أنه ناجح بالطريقة الخاطئة.

وهذا ليس حكمًا بقدر ما هو توصيف لحالة.

ماذا نريد من الإعلام اليوم؟ هل نكتفي بنجاح الأرقام، أم نبحث عن المعنى؟

     الخلاف لم يعد حول التمويل أو الدعم—هذه متوفرة اليوم أكثر من أي وقت مضى. التحوّل الحقيقي حدث حين انتقل الإعلام من كونه رسالة تُقاس بقدرتها على التأثير والبقاء، إلى قطاع مُنتِج يُدار بمنطق السوق ويُقاس بمنحنيات المشاهدة. هذا التحول، في حد ذاته، ليس خطأ.

الخطأ أن يحدث دون إعادة تعريف واضحة لمعنى النجاح.

المشكلة أن هذا النجاح صار وهمًا مريحًا.

     برنامج يحقق ملايين المشاهدات، يُحتفى به في اجتماعات التقييم (اجتماعات طويلة، بالمناسبة)، ثم بعد شهرين لا تتذكر اسمه. لكن حين تُطرح أسئلة عن الأثر، يُدافع عن هذا النجاح باستماتة. لماذا؟ لأنه نجاح في التنظيم، في الأرقام، في الإدارة، لكن ليس بالضرورة في المحتوى أو في المعنى.

ربما لا يعكس الإعلام مستوانا الأعلى الذي نحب أن نراه في أنفسنا، لكنه يعكس مستوانا الأكثر شيوعًا، والأكثر قبولًا، والأكثر أمانًا—في لحظة تُكافأ فيها النتائج السريعة أكثر من الأسئلة العميقة.

وهنا المعضلة: هل نريد إعلامًا يُرضي الجميع، أم إعلامًا يصنع هوية حتى لو كلّف ذلك بعض الخسارة؟

     إذا أردنا أن نفهم لماذا نشعر أننا خارج المنافسة الإعلامية، فعلينا أن نبدأ من الداخل. نحن لم نُهزم في سباق بقدر ما اختلفنا على تعريفه من الأساس. امتلكنا تقنيات ومنصات أفضل من السابق، لكن القرار التحريري لم يتطوّر بنفس الوتيرة.

السؤال الأساسي بقي مؤجلًا: ماذا نريد أن نقول؟ ولماذا؟

ثم هناك سؤال آخر، ربما أكثر إحراجًا: من يقول؟

     امتلكنا المنصات والتمويل، لكننا لم نمتلك بعد—بالقدر الكافي—الثقة في الصوت المحلي. الكوادر موجودة—موجودة فعلًا—لكنها نادرًا ما تُعطى المساحة الحقيقية لقيادة مشاريع كبرى. ليست المشكلة في الكفاءة، أبدًا، بل في الثقة: هل نثق في أن الصوت المحلي قادر على تمثيلنا؟ أم أننا ما زلنا نفضّل الاستعانة بخبراء من الخارج، حتى حين نتحدث عن أنفسنا؟

وهناك أيضًا توقيت السردية.

نحن جيدون في الرد، لكننا أقل جودة في البدء. من يصنع السردية يقود الحوار، ومن يرد عليها يبقى في موقع الدفاع، حتى لو كان محقًا.

المشكلة أن الإعلام أُدير بعقلية إدارية خالصة، لا بعقلية إعلامية.

والفرق كبير.

     الإعلام ليس خط إنتاج يحتاج فقط إلى ضبط الكلفة وتقليل المخاطر، بل مساحة تأثير تحتاج فهمًا ثقافيًا. حين تصبح السلامة هي القيمة العليا، يتراجع المعنى تلقائيًا، ويتحوّل الحذر من أداة حماية إلى عائق عن التقدّم.

     أذكر مرة حضرت اجتماعًا تحريريًا—اجتماع طويل، بالمناسبة—وسُئلنا: “من جمهورنا؟” لم يكن لدى أحد إجابة واضحة. ننتج بلا توقف، لكننا نادرًا ما نخاطب أحدًا بوضوح. نحاول إرضاء الجميع، فنفقد القدرة على بناء علاقة حقيقية مع أي فئة. السباق الإعلامي لا يُكسب بالكثرة، بل بالدقة—وبالقدرة على مخاطبة من تعرف أنك تخاطبه تحديدًا.

     ثم هناك الخوف. الخوف من التجربة غير المضمونة، من الخطأ العلني، من الخسارة المحتملة. كل تجربة إعلامية مؤثرة حملت احتمال الفشل في بدايتها. لكن حين يصبح تجنّب الخسارة أهم من صناعة الأثر، يتوقف الإعلام عن المغامرة، ويصبح نسخة محسّنة من نفسه لا مشروعًا متقدّمًا.

ثم هناك المفارقة الكبرى:

     نحن نمتلك بنية تحتية إعلامية من الطراز الأول—استوديوهات، مهرجانات، جوائز—لكننا ننتج محتوى ليس عنا. أفلام تُصوّر هنا، لكن قصصها ليست قصصنا. نحن بنينا المسرح، لكننا لم ننتج بعد المسرحية.

ليست المشكلة في الإمكانيات، بل في القرار: هل نريد أن نكون موقع تصوير، أم صانع محتوى؟

وأخيرًا: فجوة الثقة بين من يكتب ومن يقرّر. الكاتب يشعر أن صوته مُقيّد، وصانع القرار يشعر أن الكاتب لا يرى الصورة كاملة. وبين الطرفين، يضيع المشروع الإعلامي.

لا سباق يُدار بلا شراكة، ولا إعلام يتقدّم بلا ثقة متبادلة.

الإعلام لا يتأخر حين يخسر المقارنة، بل حين ينجح رقميًا دون أن يعرف لماذا يُنتَج، ولمن، وبأي معنى.

ليست المسألة أن نلحق—بل أن نقرر إن كنا نريد أن نلحق أصلًا. ربما نحتاج إعلامًا يُشبهنا نحن، لا ما سبقنا إليه الآخرون—حتى لو بدأ صغيرًا وبطيئًا.

الإعلام لا يتقدّم حين يركض أسرع، بل حين يعرف إلى أين يتجه