رئيس تحرير صحيفة الإمارات اليوم
مهمّة جديدة تنتظر المؤرخين وعلماء الآثار والمختصين والباحثين في التاريخ والبشرية بشكل عام، هذه المهمة تتمثل في إعادة كتابة التاريخ، وتصحيح كثير من المعلومات التاريخية، التي بدأ يتكشف عكسها مع بدايات اكتشاف آثار الحضارة البشرية المدفونة في صحراء دبي، والتي اكتشفها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وأطلق عليها اسم «ساروق الحديد».
«ساروق» هي المنطقة المنخفضة والممتدة بين كثبان مرتفعة، أزالت الرياح أطرافاً منها لتُظهر كميات كبيرة جداً من خبث الحديد، لاحظه الشيخ محمد بن راشد وهو في طائرة هليكوبتر، ثم عاد ليطلب من فرق البحث في بلدية دبي التنقيب في هذا المكان، ليظهر للعالم كنز أثري لا يقدّر بثمن، وهو عملياً قد يصبح أكبر موقع أثري في العالم، حيث يتوقع أن يتم استخراج أكثر من 100 ألف قطعة من هذا المكان!
أهمية الاكتشافات الأثرية تكمن في كتابة التاريخ، فمن خلال الآثار يستطيع المؤرخون ربط الأحداث والأمكنة والأحداث التاريخية، ومن خلال الأحفوريات يتعرفون إلى حياة الإنسان قبل آلاف السنين، ويتعرفون إلى أصول وتنقلات الإنسان منذ قديم الزمان الضارب في عمق التاريخ.
في «ساروق الحديد»، ومن خلال 5% فقط من القطع الأثرية التي تم استخراجها إلى الآن، وتبلغ 13 ألف قطعة منوعة بين سيوف وخناجر ورؤوس رماح، ومصوغات ذهبية خالصة من الذهب، وبكميات كبيرة، وغيرها كثير، تغيّر كثير من المعلومات التاريخية، وبشكل سيغيّر في خريطة التاريخ، فهذه المنطقة تحديداً هي منطقة حضارة عريقة، وهُنا تحديداً كانت تُصنع الأسلحة، بل إنها المنطقة المصدّرة للسيوف والأسلحة إلى العالم أجمع في ذلك الوقت، ويكفي أن نعرف أنها مصدر تصنيع السيوف الصغيرة المستقيمة، التي اشتهر بحملها الإسكندر المقدوني، لنغيّر بذلك معلومة تفيد بأن المقدونيين هم من صنع هذه السيوف، لنكتشف الآن بعد آلاف السنين أنهم استوردوها من هُنا، من ساروق الحديد، من الجزيرة العربية، فالإسكندر المقدوني وُلد في عام 356 قبل الميلاد، والسيوف التي اكتُشفت هُنا تعود إلى أكثر من 1600 سنة قبل الميلاد!
هُنا كانت الصناعة، والإنتاج، ومن هنا انطلقت السيوف حول العالم، يكفي أن نعرف أن آثار مصر جميعها تضم بضعة من تلك السيوف التي تشابه سيف الإسكندر لا تتجاوز خمسة، في حين أنه بمنطقة المصنع في ساروق الحديد تم العثور على أكثر من 33 سيفاً من هذه النوعية حتى الآن!
كميات الذهب أيضاً، والدقة المتناهية في التصنيع تدلّ على أن حرفيين مهرة جداً عاشوا في هذه المنطقة، ما يعزز المقولات الضاربة في التاريخ عن كثير من اليونانيين القدامى الذين يصفون فيها الذهب القادم من هذه المنطقة، دون أن يعرف أحد مكانها على وجه الدقة، لنكتشف اليوم وبعد آلاف السنين أن «ساروق الحديد» هي المدينة التي تغنّوا بها، وهي أهم منطقة في عصرها في استيراد الذهب، وإعادة تصديره على شكل مقتنيات وخواتم وأساور دقيقة الصنع وفائقة الجودة، ومنها يصدّر إلى الحضارات والممالك القديمة جداً!
التاريخ القديم هو امتداد ضارب في عمق الزمن ممتد ومتواصل مع الحاضر، وهذا ما أثبته موقع ساروق الحديد، فهذه المنطقة هي ملتقى حضارات، وممر تجاري مهم، بل هي عاصمة صناعية وتجارية ومركز للتصدير لجميع أنحاء العالم، أهاليها لا يملكون ثروات طبيعية، ومع ذلك فهم يمتلكون دهاءً وحرفة ودقة في العمل والإنتاج، فاستطاعوا إعادة تصنيع الذهب وتصديره رغم أنهم ليسوا مصدراً لإنتاجه، أهلها مسالمون منفتحون على العالم، يمتازون بحب العمل والكرم، هذا ما تم اكتشافه في الآثار والمقتنيات التي تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهذا ما تتميز به الإمارات وأهلها اليوم!
المصدر: الإمارات اليوم