الإنسان أولاً

آراء

خاص لـ هات بوست:

عرف عن العرب قديماً الوقوف على الأطلال، يتغزلون بالجدارن ويكتبون لها القصائد ، لا حباً بها بل  حباً لمن سكنها، فقال قيس بن الملوح:

وما حب الديار شغفن قلبي  ولكن حب من سكن الديارا

وفي بلاد الشام نقول بالعامية: البيوت بسكانها مو بحيطانها.

هذا عن البيوت بشكل عام، فماذا عن بيت الله؟ بالتأكيد لا يسكن فيها الله عز وجل، فهو خارج الزمان والمكان  {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 115)، إنما في هذه البيوت يتواصل المؤمنون مع الله، أي يقيمون الصلاة ويرددون الأدعية، والمفروض أن اسم الله يرفع فيها {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (البقرة 114).

لكن اسم الله ارتبط في أذهاننا بإقامة الصلاة فقط لا غير، على ما لهذه الشعيرة من أهمية، ورفعه اقتصر على الأذان وخطبة الجمعة، وتناسينا أن هنالك أمور عدة ربطها التنزيل الحكيم مع الصلاة، ولعل سورة الماعون بأكملها خير مثال:

بسم الله الرحمن الرحيم

{أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ * فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ * فَوَيۡلٞ لِّلۡمُصَلِّينَ * ٱلَّذِينَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ * ٱلَّذِينَ هُمۡ يُرَآءُونَ * وَيَمۡنَعُونَ ٱلۡمَاعُونَ} صدق الله العظيم.

ونفهم من السورة أن السهو عن الصلاة هو سهو عما يعزز علاقتنا برب العالمين، هو الرياء ومنع الطعام عن المحتاجين، والقسوة على اليتيم، وهذا كله تكذيب بالدين، وقس على ذلك.

فأن تقدم الطعام للمحتاج لكن تتركه ينام في الطريق لا بد أنه مستهجن كما لو أنك منعت عنه الماعون، وأن “دعّ” اليتيم ليس بالضرورة ضربه وإنما تركه عرضة للتشرد والعذاب.

 والله تعالى هو الرحمن الرحيم، هو من دعانا ألا نقنط من رحمته، فهل يمكن ألا يكون بيته بيت الرحمة وملاذ البائسين؟ فدخول المشردين الذين أصبحوا بين ليلة وضحاها خارج بيوتهم بلا مأوى، إلى المساجد  والكنائس لا يغضب الله، وما يدنسها ليس أقدامهم أو أطفالهم، بل ما يغضب الله هو نوم هؤلاء النساء والأطفال في الشوارع، فبيت الله يفترض أن يكون ملجأَ للمساكين وإلا فقد معناه تماماً.

يحضرني هنا ما يحدث اليوم، وما سبق أن حدث سابقاً نتيجة الحروب أو الكوارث الطبيعية، من منع النازحين دخول المساجد، بحجة المحافظة على الطهارة، أو ترك الفتيات والنساء يقضين أياماً في حمامات المساجد أثناء فترة الحيض، خلال الشتاء القارس، إذ يمنع عليهن دخول صحن المسجد كي لا يدنسنه، فالحال هنا أن المساجد فتحت للمشردين لكنها بقيت بشروط.

نعم نفهم أن الطهارة أمر أساسي في  شروط إقامة الصلاة، لكن هناك حالات فيها المهم وفيها الأهم، فيمكن أن يخصص مكان صغير لإقامة صلاة الجماعة بحيث يبقى طاهراً، مقابل أن يؤوي المسجد من هم على قارعة الطريق، ممن لا خيار آخر أمامهم، وتقطعت بهم الأسباب، والأرضيات يمكن غسلها، إنما القلوب الكسيرة لا تغسل بسهولة، ولنا في قوله تعالى  {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة 177)، خير دليل، فالمال ليس نقوداً فقط وإنما ما نملكه سواء كأفراد أو كجماعات، وبالتالي يمكن لنا أن نول وجوهنا إلى القبلة في أي مكان ونحسن في الوقت نفسه إلى أولئك اليتامى والمساكين وأبناء السبيل.

على أن الأمثلة في كتاب الله التي تصب في كون عملك الصالح هو رفع لاسم الله كثيرة، وأن الصلاة ليست بالإقامة فقط إنما بالإحسان للغير، وإيمانك باليوم الآخر يعني بالضرورة خوفك من أن تظلم أحد.

ثمة أمر رئيسي هنا، يقبع في عقلنا الجمعي بشكل عام، هو أننا لا نقيم اعتباراً للإنسان، فنقدس المكان الذي بنيناه بأيدينا أكثر منه، ونتناسى أن الله تعالى كرم هذا الكائن ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض، وأمر الكائنات الأخرى السجود له، وسخر له كل ما في الكون ليقيم حياة أفضل، لكننا تحت شعارات عديدة لم نقم له وزناً بما فيه الكفاية، ولم نعر اهتماماً لحياته ولا راحته ولا طمأنينته، وبالتالي من الطبيعي أن يصبح بلاط المسجد أهم منه.

وعلى الجانب نفسه تصبح الشعائر شكلاً  نختبىء داخله ونريح ضمائرنا، فنحن إن أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وصمنا رمضان، وحبذا لو حججنا أيضاً، نكون قد حافظنا على الشكل المطلوب لنقيّم على اعتبار أننا صالحون، حتى أمام أنفسنا، ويصبح المضمون منوطاً بالظروف، أما العمل الصالح فيمكننا ركنه جانباً أحيانا،علماً أنه الركن الأساسي في الإسلام بعد الإيمان بالله {ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33).

خلاصة القول، ما نحتاجه كمجتمعات هو تفعيل الرحمة في قلوبنا أولاً، وإعادة الاعتبار للإنسان ثانياً، وعلى خط مواز إعادة ترتيب أركان الإسلام في العقل الجمعي ليأخذ العمل الصالح مكانته كركن ثاني مباشرة بعد الإيمان بالله واليوم الآخر.