من الهول، من فداحة المعضلة، من أول المهزلة حتى آخر المرحلة، نجد في داعش آخر ما توصل إليه الإنسان المتوحش، آخر ما طالته النفس المدمرة بالحقد، الملطخة بدماء العدوانية والكراهية. وعندما نقرأ الخريطة، نجد أن الأنهار جفت، والعيون ما كفكفت دمعاً، والقلوب ما أوقفت نزفاً، لأن الفقدان عظيم، والهول فظيع، والضياع يفتح هوة أوسع من ثقب الأوزون، كل ذلك مدعاة للأسئلة، فهل انقرض الإنسان أم انقرضت إنسانيته؟
كان مارتن هايدجر الفيلسوف الألماني الوجودي قد حذر من موت الإنسان، بعدما شاهده من مأساة أتت على الأخضر واليابس في حروب أوروبا الضروس، وأعطى مثالاً لضياع البشرية في أتون «الميكنة» وتجميد الضمير الإنساني في ثلاجة التكنولوجيا الفظة، وسيراً على منوال هذا النهج الميكني، دأبت داعش على الخروج من ملاءة الإنسانية لترتدي شرشفاً من الكتان المقزز، وتعتلي المشهد الإنساني، وتتصدر الأحداث، لتصبح هي الحدث الجلل في عالم القرن الواحد والعشرين، وتعلن عن دولتها المشؤومة، متخذة من الأبرياء أول الضحايا، ومن تهشيم الأوطان أولى الخطوات، وتعتيم المبادئ أولى المقدمات.
لا أعتقد أن الإنسان أو بالأحرى، غالبية البشر موجودون على قيد الحياة، ما دامت إنسانيتهم تحتضر، ممثلين بداعش ومن والاها، ومن دعمها، ومن عزز أفكارها، ومن دفع بآلياتها كي تصبح دولة عظمى، تنتشر في كل أنحاء العالم، تفتك وتنتهك، وتقض المضاجع، وتفشي المواجع، فالإنسانية المعذبة بداعش تقف على حافة هاوية، وعند سواحل تنهمر فيها الدماء، مثلما تنكب المياه غير الصالحة للشرب، في مستنقعات الغش الأيديولوجي.
والإنسانية المعذبة بداعش، تواجه اليوم مصير سقراط، الذي فضَّل الموت على الخيانة، لأنه كان يعلم أن من يتحدثون باسم الدين هم الأبعد مسافة عنه، طالما رخصت أرواح البشر بين أيديهم، وطالما هانت عليهم السيادة الوطنية لحساب أفكار وهمية، وأحزان تاريخية، وتهيؤات خيالية من فيض شيزوفرينيا، ومرض ذهاني فتاك.
الإنسانية المعذبة بداعش لابد وأنها ستنقرض، لأن الإنسان بلا ضمير، هو كائن أجوف، بلا معنى ولا دلالة، وما يتم على أرض الواقع، يدفع بالفكر الإنساني، إلى ركوب عجلات فارغة تؤدي به إلى الضجيج ولكن بلا مضمون.
الإنسانية المعذبة بداعش، تصنع جيلاً مهمشاً، محطماً، متبرماً من الحياة، متوهماً بالجنة التي يفرش سجادتها من أجساد البشر، ولونها من لون الدماء المهدرة. الإنسانية المعذبة تحتاج إلى عقل يخرجها من اللا عقل.
المصدر: الاتحاد