عبدالعزيز الدُخيّل
عبدالعزيز الدُخيّل
كاتب سعودي و إقتصادي معروف

الإنفاق الحكومي والعجز المالي المحتمل وصندوق النقد الدولي

آراء

زامر الحي لا يطرب. هذا هو الحال لدى المعنيين بالشأن المالي والاقتصادي عندنا. في سلسلة مقالات في صحيفة “الشرق” كتبت قائلاً إننا نتجه إلى عجز مالي قد يتفاقم إلى مستوى الأزمة المالية إذا لم يتم تصحيح السياسات الاقتصادية وعلى وجه الخصوص الإنفاق الحكومي. كما قلت إن معدلات النمو التي يشيد بها الوزراء والمسؤولون ليست إلا ذراً للرماد في العيون لأنها لا تعبر عن نمو حقيقي في الإنتاج القومي وإنما هو نمو في استهلاك رصيدنا الوطني من الاحتياطيات النفطية التي هي ليست ملكاً لهذا الجيل وحده وإنما هي أيضاً ملك للأجيال القادمة (انظر صحيفة الشرق – العدد 323 – الإثنين 22/10/2012). السيدة كرستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي في زيارة للرياض منذ حوالي ثلاثة أسابيع (6 أكتوبر 2012م) أشادت باقتصاد دول الخليج العربي المصدرة للنفط وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وقالت إن هذه الاقتصادات تتمتع بنمو قوي بلغ 7.5% في عام 2011م وأن هذا النمو سيبقى قوياً في عام 2012م.عندها كتبت مقالاً بعنوان (مديـرة صنــدوق النقــد الدولــي قولي خيــراً أو اصمتــي – صحيفــة الشـــرق العدد 309 بتاريخ 8 /10/2012). بيان مديرة الصندوق الدولي في السادس من أكتوبر في الرياض عن متانة الاقتصاد السعودي وأخواته من الاقتصاديات الخليجية المستخرجة للنفط الذي لا أشك أن وزراءنا عدوه شهادة نجاح وتقدير لهم هو بالنسبة لنا نحن المواطنين إن هو إلا إطراء سمج وفي غير محله لأنه يساهم في تشويه الحقائق ويقدم للمسؤولين عن أخطاء السياسة الاقتصادية شهادة إنجاز دولية كشهادة الدكتوراة الفخرية التي تمنح للعباقرة من رجال السياسة والمال الخليجيين. قبل عدة أيام وبالتحديد في 29 أكتوبر2012م حذر تقرير لصندوق النقد الدولي دول مجلس التعاون الخليجي GCC وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية بأنه ابتداء من عام 2013م فإن فوائضها المالية ستبدأ في الانخفاض حتى يتحول مجموع الفوائض المالية في الميزانية والحساب الخارجي إلى عجز في عام 2017م إن لم تتدارك الحكومات الأمر وتقلص حجم الإنفاق الحكومي (انظر menafn.com 10/30/2012). في مقالي بعنوان: تجاهل الحقيقة لا يلغيها.. تقرير سيتي جروب في الاتجاه الصحيح (جريدة الشرق العدد 281 بتاريخ 10/9/2012م) أشرت إلى بحث اقتصادي إحصائي قمت بإعداده يتعلق بمستقبل الوضع المالي الحكومي خلال الفترة (2010 – 2030م) وذلك من خلال دراسة واستقصاء رياضي للإنفاق والإيرادات الحكومية بناءً على فرضيات إحصائية. وقد أظهرت النتائج عجزاً مالياً يبدأ عام 2013م (24.7 بليون دولار أمريكي) يصل في بعض السيناريوهات إلى (806.3 بليون دولار أمريكي عام 2030م) تشمل الدراسة 18 سيناريو بفرضيات مختلفة ونتائج مختلفة لا يتسع المجال لذكرها هنا. تأسيساً على نتائج هذا البحث قلت ورددت كثيراً إننا نتجه نحو أزمة مالية مستقبلية قد تكون لها نتائج خطيرة على حالة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية إذا لم تسارع الدولة إلى إحداث تغيرات بنيوية وجوهرية في ترشيد الإنفاق الحكومي والحد من الهدر والفساد المالي من جهة، وزيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية من جهة أخرى. تقرير صندوق النقد الدولي الذي يتوقع انخفاضاً في الفوائض يبدأ عام 2013م ويحيل فائض الميزانية والحساب الخارجي إلى عجز أعتقد أنه يسير في الاتجاه الصحيح وأتمنى أن يخلع الصندوق وخبراؤه قناع المجاملة المبنية على حاجة الصندوق لأموال المملكة من جهة وحاجته إلى خفض أسعار البترول وتزويد السوق بما يحتاجه من النفط السعودي من جهة أخرى ويقول بشكل واضح ومحدد رأيه المهني في المستقبل البعيد للاقتصاد السعودي إن استمرت الحكومة في سياساتها المالية والاقتصادية الراهنة. تقارير صندوق النقد الدولي السنوية عن الاقتصاد السعودي تشير في بعض الأحيان إلى ضرورة ترشيد الإنفاق والإقلال من الهدر ولكن على استحياء وبعد الإشادة بالنمو الذي حققه الناتج القومي رغم أنهم يعلمون أن هذا النمو إن هو إلا زيادة في استهلاك الثروة النفطية وليس زيادة في الإنتاج أي في القيمة المضافة. هل كلف مسؤول نفسه عندما أشرت إلى الدراسة سابقاً أن يتصل ويطلب مزيداً من الإيضاح والمعلومات؟ هذا لم يحدث ولن يحدث إن استمرت العقلية التي تدير الشأن المالي والاقتصادي كما هي، لكنني أرجو أن يطلبوا مزيداً من الإيضاح من صندوق النقد الدولي، وإن كانوا على علم بالأمر وعلى اتصال بالصندوق أن يخبرونا أو يخبروا مجلس الشورى الذي يفترض أنه معني ومهتم بالقضايا الجوهرية التي تهم حياة المواطنين ومستقبلهم.

الآن قد حصحص الحق وظهر أنه لابد من تخفيض الإنفاق الحكومي تفادياً للعجز المالي وتراكم الدين العام الذي تجاوز حجمه الناتج الإجمالي العام في عام 1999م ووصل إلى مستويات خطيرة بلغت 103.5% من حجم الناتج المحلي الإجمالي.GDP ولي مع معالي وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف قصة طريفة لاشك أنه يذكرها عندما قال لي وكنا في إحدى المناسبات، كيف تقول في محاضرتك في جامعة جورج تاون (1998م) إن حجم الدين الحكومي وصل إلى مستوى عال جداً، فحجم الدين ليس مرتفعاً بالشكل الذي تقوله، فأجبته بأن الوحيد الذي يعرف الرقم الحقيقي لحجم الدين الحكومي هو معاليكم فأعطني الرقم وأنا مستعد أن أعترف بخطئي أمام الملأ وأعلن الرقم الصحيح، فقال معاليه هذا رقم لا يعلن، فقلت له ما دام الأمر كذلك فأنا وغيري من المهتمين بالشأن الاقتصادي لنا كامل الحق في البحث والتحليل من أجل الوصول إلى الرقم الذي نعتقد أنه يمثل حجم الدين الحكومي ما دامت الحكومة تصر على إبقائه مستوراً. وخلال سنوات قلائل بدأت أرقام الدين العام تعلن. أعود إلى صلب الموضوع وأسأل ماذا نحن فاعلون؟ في المرة السابقة (1999م) عندما تراكم العجز المالي وارتفع الدين الحكومي جاء الإنقاذ من ارتفاع سعر البترول في العام التالي (2000م) فتم خفض الدين الحكومي بفعل الزيادة في الإيرادات البترولية وليس بفعل ترشيد الإنفاق والحد من الهدر والفساد وإضاعة المال العام بمشروعات استهلاكية أو استثمارية لا جدوى لها. في هذه المرة لن تكون هناك زيادة في أسعار البترول كتلك التي أنقذت ماليتنا العامة من ذلك الدين الكبير في عام 1999م فأي طريق سوف نسلك وفي أي اتجاه سوف نسير؟

أمامنا طريقان رئيسيان:

الأول: يتجه نحو الحد من الإنفاق ومن المشروعات الحكومية التي لا تصب مباشرة في رفع مستوى حياة المواطن كماً ونوعاً والتركيز على البرامج والمشروعات ذات الأثر الإيجابي المباشر على الإنسان التي تشمل على سبيل المثال وليس الحصر، التعليم، الصحة، السكن، التدريب، الشؤون الاجتماعية، استكمال المرافق العامة في القرى والمدن الصغيرة قبل الكبيرة، هيكلة القطاع الحكومي للحد من الترهل في حجم الأجهزة الحكومية وضبط آليات الصرف الحكومي للحد من البيروقراطية والفساد المالي وزيادة حجم وفعالية الرقابة المالية والمراجعة وتأجيل أو إلغاء بعض المشروعات التي لا ترتبط مباشرة بحياة المواطن الاقتصادية أو التي لا تتمتع بجدوى اقتصادية عالية وإعمال الضوابط والمعايير الاقتصادية المتعلقة بتحقيق وتطبيق التكلفة الاقتصادية المثلى للمشروعات الضخمة ومنها على سبيل المثال مشروعات المدن الاقتصادية وتوسعات الحرمين الشريفين للحد من أي هدر قد يرتبط بها. ومن نافلة القول إن الأمر يحتاج إلى دراسات اقتصادية ومالية متعمقة من أجل الوصول إلى استراتجية اقتصادية تتلاءم مع الظروف المالية القادمة. هذا فيما يتعلق بالحد من الإنفاق الذي يجب أن تصاحبه زيادة في الدخل الحكومي غير البترولي وهذا باب بنوده كثيرة لكن لو ركزنا في الوقت الراهن على الحد من استغلال المال العام وضياعه بفعل الفساد واستغلال السلطة لوفرنا مالاً كثيراً.

الثاني: هو السير على ما نحن عليه لا نأبه بالقادم من الظروف والمتغيرات الاقتصادية والمالية والبترولية ظناً منا أننا من الدول ذات الاقتصاد العظيم كما يقول لنا من أدخلونا في مجموعة العشرين وهي الدول ذات الاقتصادات الأكبر والأهم في العالم، وهم يعلمون أن اقتصادنا في مهب الريح كلما عصفت بسوق البترول عاصفة، لأن البترول الذي نستخرجه من باطن الأرض هو السلعة الأساسية والرئيسية التي تضخ إيراداتها الدم في جسمنا الاقتصادي وقلبه. لا تعجبوا فهذا وضعكم الاقتصادي اليوم وهذا ما حدا بصندوق النقد الدولي أن يحذركم ويطلب منكم تخفيض الإنفاق لأن الدراسات تشير إلى أن أسعار البترول تتجه إلى الانخفاض وأن الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها سوف يزداد إنتاجها من البترول المحلي بفعل تقنيات الاستخراج الجديدة من الآبار القديمة أو الصخر الرملي أو من أعماق البحار.

نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٣٣٧) صفحة (١١) بتاريخ (٠٥-١١-٢٠١٢)