كاتبة سعودية
من أكثر الجرائم التي لا تؤخذ على محمل الجد في البلاد العربية وتقابل دائماً بعدم الاكتراث جريمة الإهمال التي تبدأ بحالة مستمرة من اللامبالاة إلى أن تتحول إلى جريمة رسمية يسقط على إثرها عدد من الضحايا، وذلك بسبب غياب قانون مباشر يضعها على لائحة الجرائم الإنسانية، وبالمقابل نجد حزمة من الاحتياطات تتخذها القوانين الغربية بمنتهى الجدية ضد أي سلوك يقبل للشك بأن وراءه عملية إهمال، ولا تنتظر إلى أن تقع حادثة لتُجرمه، بل يكفي قياس حجم الضرر المحتمل الذي من الممكن أن تتسبب فيه حالة الإهمال ليصبح جريمة تُدخل صاحبه السجن.
أعلنت اللجنة المكلفة بالتحقيق في حريق متوسطة البنات في مكة عام 2002 الذي أودى بحياة 15 تلميذة، أن الحادث تتحمل مسؤوليته رئاسة تعليم البنات لعدة أسباب كان من ضمنها: الإهمال الواضح في عملية اختيار المباني التي لا تتطابق مع مواصفات الأمن والسلامة، وثانياً عدم إخضاع المعلمات والهيئة الإدارية لبرامج التدرب على السلامة والإخلاء في حالات الحريق والطوارئ، وانتهت التحقيقات بإقالة رئيس تعليم البنات في ذلك الوقت، ودمج الرئاسة في وزارة المعارف «التربية والتعليم حالياً» ليسدل الستار على زمن الاستقلال الإداري المتعنت لتعليم الفتيات في المملكة، في ذلك الوقت طالب الدفاع المدني وزارة التربية والتعليم بتدريب منسوبي المدارس على عمليات الإخلاء في حالة الطوارئ، فاجتهدت المدارس على عمل خطط طوارئ للنجاة من الحريق فقط، مؤكدة للوزارة تطبيقها «ورقياً» لشروط السلامة بحذافيرها، إلى أن اندلع حريق مدرسة براعم الوطن في2011 لتنكشف للمجتمع كارثة المدارس المسجية نوافذها وأسوارها والمُحكم إغلاقها بالقضبان الحديدية لتتحول إلى ثكنات تعليمية تخشى أن يفر من فيها من قبضة العدالة.
في الأسبوع الماضي عاشت جامعة الملك سعود حالة مستميتة وغير مسبوقة للدفاع عن نفسها لم تشهدها في تاريخها الأكاديمي، حين استنفر أكثر من متحدث ليبرر بلهجة تخلي مسؤولية الجامعة بعد أن توفت داخلها طالبة الماجستير التي هوت من مقعدها فجأة في مشهد مخيف تُنازع بين الحياة والموت جعل الأكاديميات والإداريات والطالبات يتعرضن لصدمة شلت حركتهن للحظات، وحين أفاق الجميع من الصدمة كان الارتباك بطل المشهد، بسبب انشغال الطبيبة «الوحيدة» بحالة مرضية أخرى، وعجز منسوبات الجامعة عن عمل إسعافات أولية، وقصور الخدمات الأساسية من أجهزة طبية في العيادة، وتعطل المصعد الذي ساهم في الأزمة ناهيك عن العذر الأقبح من الذنب حين تأخر السماح للمسعفين بالدخول أكثر من ساعة لأن قوانين الخروج أقوى من الاحتضار! لم تصدمنا مداخلة عميدة أقسام العلوم الإنسانية في أخبار التاسعة التي بثتها محطة الـ «إم بي سي»، لأن أسلوب الجامعة الدفاعي لتحسين الصورة لم يتغير منذ سنوات، ولكن أحزنني صوت إصرار العميدة على أن عملية دخول الإسعاف لم تتأخر سوى ساعة واحدة فقط، وكأن الساعة مجرد خمس دقائق، ونحن على دراية بأن أي تأخير في عملية إسعاف أي إنسان يحتضر كفيل بإنهاء حياته! ولم تشرح من الذي استهان بعطل المصعد، أو من الذي تجاهل وصمت على وجود طبيبة واحدة فقط في جامعة ضخمة تحوي هذا العدد الكبير من الأرواح، ولم تصرح من الذي تجاهل ضرورة تدريب منسوبات الجامعة والطالبات على الإسعافات الأولية، وإذا تعرضت الجامعة لأي حالة طوارئ لا سمح الله من حريق أو زلزال أو فيضان على سبيل المثال ستحدث كارثة، لأنه من الطبيعي في تلك المواقف أن تسقط حالات فزع، وإغماء، واختناق أو دعس، فإذا كانت لا تحوي جامعة بهذا الحجم والمستوى على فرق مدربة داخلها على إدارة الأزمات والاستجابة لحالات الطوارئ، فكيف ستكون مخرجاتها إذن!؟
كنت أتمنى أن يكون موقف الجامعة مثالاً يقتدى به أمام طلبتها في تحمل المسؤولية بشجاعة، ليتعلموا مواجهة الخطأ والاعتراف به، وكنت أتوقع أن تعلن حالة قصوى بين قياديي الجامعة ومسؤوليها لإعادة الحسابات والأولويات والبدء الفوري في تصحيح السلبيات والقصور، بدلا من أسلوب الإنكار والتكذيب المستمر الذي طال الأخ المكلوم الذي كان ينتظرها بالخارج والأخوات والأب وموظفي الإسعاف الذين واجهوا عملية الإعاقة، والشهود من بعض الأكاديميات والطالبات، ملف التشديد الأمني على ثكنات الفتيات التعليمية في البلاد لم يُحسم بعد، ومازال في حاجة إلى قوانين تفصيلية واضحة، كما أنه بات من الضروري أن نعيد تقييم وتحديث أداء وواجبات مؤسساتنا المدنية باستمرار، فنحن لا نعرف أين يتربص الموت في كل مرة.
المصدر: الشرق