مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان
أحب إيمان العجائز كثيراً وهم يتعاملون مع التفصيلات ومع الأفكار الكبيرة، لا يغيرون مواقفهم ولا يتغيرون، لديهم حالة من الثبات على الموقف تلفت النظر، وإضافة للثبات فهم شديدو الاقتناع بما يؤمنون به وشديدو الوضوح في التعبير عن هذا الإيمان، وحين يعبرون فإنهم يبدون بسطاء جداً لكنها تلك البساطة التي لا يمكنك تقليدها أو الاستهانة بها، لا يمكنك سوى احترامها وإظهار التعجب والكثير من الإعجاب، هل رأيت رجلاً عجوزاً يبدل قناعاته كل يوم كما يبدل ثيابه؟ هل لاحظت اختلافاً في الانتماء للفكرة، إنها نفس الدرجة من الثبات سواء تعلقت الفكرة بالإيمان بالله أو الرفق بالأطفال والحيوان، الأمثال، السبب أنهم ينطلقون من الإيمان للتعامل مع كل التفاصيل.
نحن لا نتأمل درجة التسامح التي يتمتعون بها، لا ننتبه لمنسوب الحكمة العالي الذي يتحدثون به، لا نفكر في صفاء الأفكار وسلامتها من التلوثات، لأننا معتدّون بآرائنا فقط ولأننا نسيء الظن بقدرات العجائز وما لديهم من ذخيرة فكرية، إننا نخطئ حين نظن أن قناعات اليوم والأفكار الشائعة والمتداولة فيه هي تستحق البحث وهي ما يتوجب النظر إليها بتقدير واهتمام وتجاهل كل ما عداها لأن الزمن تجاوزها وتجاوز أصحابها! ذلك ليس صحيحاً بالمطلق، الزمن لا يمسح التجارب ولا يلغيها، فمثلاً رغم كل التطور وثورة المعلومات والتقنية اليوم إلا أن العالم كله يلجأ لذاكرته وقت اللزوم ليثبت أن ما وصلت إليه الإنسانية اليوم في حقيقته ليس سوى جهود ومساع ومشاركة كل شخص عاش في الماضي واختزن جزءاً منه في ذاكرته !
أتأمل كمية المقاطع والأخبار والصور التي عرضت في مواقع التواصل ووسائل الإعلام خلال اليومين الماضيين منذ أعلنت وفاة بطل العالم الأسطوري في رياضة الملاكمة محمد علي كلاي، فهذا الرجل الذي بدا في سنواته الأخيرة عجوزاً مرتعشاً ضعيفاً، شكل ولايزال ذاكرة أمة في الولايات المتحدة الأميركية، كما أنه يعني الكثير لكل العالم، الأمر يتجاوز البطولات والملاكمة والرياضة، فمحمد علي كان مؤمناً بإنسانيته أكثر من إيمانه بعضلاته، وبقيمة الحق والخير والحرية والتمسك بالقناعة والفكرة الصحيحة أكثر من تمسكه بألقابه التي جردته منها سلطات بلاده حين حاكمته واستجوبته بسبب رفضه المشاركة في حرب غير مشروعة وجائرة تلك التي شنتها الولايات المتحدة ضد فيتنام وخرجت منها مهزومة ومنكسرة وهي دولة عظمى بينما الفيتناميون يخوضون حرب عصابات خلف (هوشي منه) الفيتنامي المؤمن بحق شعبه في الحرية!
إيمان العجائز ليس ذلك المرتبط بالعمر فقط لكنه الإيمان الذي يتجلى في مدى تجذره في قلب صاحبه إلى درجة أنه يمارسه كأسلوب حياة بمنتهى الثقة، إنه الحقيقة الوحيدة في هذا الكون، هذا الإيمان هو ما يفتقده معظم الناس في زماننا حتى أنه يحق لنا أن نقول إنّنا نعيش زمن نهاية الإيمان!
المصدر: البيان