مدير تحرير صحيفة الجزيرة
شخصياً لم يسبق أن قرأت خبراً عن نشاط الاستخبارات السعودية باستثناء التعيينات في المناصب القيادية، إضافة إلى إشارة بيان لـ «الداخلية» عن دور لها في القبض على خلية تجسس، فكان إعلان أول من أمس عن نجاحها في تحرير الديبلوماسي المختطف عبدالله الخالدي إضاءة مبهرة تكشف حقيقة قدراتها ومهارات رجالها وعملهم المستمر إلى أن تمكنت من صفع «القاعدة»، وإنذار كل جماعة إرهابية مهما كان شكلها السياسي بأن اليد السعودية طولى وممتدة، وأن القيادة لا تفرط في أبنائها ولا تنام عيونها عنهم أبداً.
وفق «إيلاف» فإن السعودية رفضت عرضاً قطرياً للتوسط لإطلاق الخالدي بعد طلب «القاعدة» ثلاثة ملايين دولار فدية، واستمرت في العمل وسط ظروف صعبة وتنقلات كثيرة ومخابئ قاعدية، حتى أنجزت هدفها مُنقذَة الخالدي سالماً من دون أن تخسر رجلاً أو تدفع دولاراً، معلنة قدرة استخباراتها ومهارة رجالها في العمل الدؤوب وسط ظروف غاية في الصعوبة والتوتر وتبدل الولاءات وتغير المواقع.
كان لافتاً أن البيان الرسمي أوكل النجاح إلى الاستخبارات، ولم يكتفِ بإعلان عام حتى لا يبخس الرجال حظهم من الإشادة، والإدارة حقها من الشكر، ولسد الباب أمام تخرصات ومزاعم أن أحداً ما كان له الفضل أو أن الحكومة دفعت الدية المطلوبة وتفاوضت مع الإرهابيين. هذا النجاح المزدوج يبرهن أن للسعودية قدراتها غير المعلنة، وأنها كشفت مراكز تنظيم «القاعدة» في اليمن ومخابئه الخاصة، ولو أمكن كشف تفاصيل أكثر لاتضح الجهد البطولي في هذه العملية التي تنضم إلى قائمة العمليات الكبرى التي تعزز المواطنة وتعلي الشعور بالذات، وتعلن لكل خصم ومعاند أن صمت اللسان لا يعني أن اليد ساكنة وقاصرة.
هذه العملية تتفق مع تجارب أخرى للسعودية، إذ سبق لها أن حذّرت واشنطن من الطرود المفخخة القادمة من اليمن، واعترف كامرون أن معلومات سعودية أنقذت حياة مئات البريطانيين داخل لندن نفسها، ولو أن العالم أصغى لها منذ 2005 لما كان «داعش» وسواه شاغلاً العالم ومنشئاً المقابر وناشراً الخراب.
التنصيص على الاستخبارات في البيان يشي أن النزعة المؤسساتية هي الأطغى، فالأجهزة الحكومية تتعاون وتتضافر لإنجاز مهماتها، ولعل الرئيس الجديد للاستخبارات كان من القائمين على هذه القضية منذ أيامها الأولى، لأن الغاية تقتضي الاستفادة الكاملة من كل المهارات والخبرات المتوافرة.
عند بدء تواتر رسائل الخالدي التي تطلقها «القاعدة» على لسانه قسراً، كان الشامتون يتساءلون عن سلبية الحكومة وتقاصرها في إنقاذه مع أن المتحدث الرسمي لـ «الداخلية» كان دوماً حاضراً لتبيان الموقف في حدود الممكن، ثم جاء التحرير وما رافقه من احتفاء كبير بعودة الخالدي ليكون رداً قامعاً لكل النيات والنزعات السيئة، وبرهاناً على أن الدولة لا تنام على ضيم ولا تغفو لحظة عن مواطنيها مهما اقتضى الأمر، فالسعودية لا تفاوض الإرهاب لكنها قادرة على دخول جحوره، والخالدي لم «يُفرَج» عنه بل أُنقِذ قوة وسطوة.
على الإرهابيين أن يرتعبوا من هذا الانكشاف، فلم تنفعهم الكهوف ووحشة الجبال وكثرة المخابئ واستبدال المواقع والاختباء بين الناس من اليد السعودية التي تعرف خريطتهم أكثر من بعض قياداتهم، ولولا ذلك ما عاد الخالدي سالماً.
المواطن أولاً وأخيراً… هي الرسالة الجوهرية لعملية الإنقاذ، والترحيب الكبير بالمواطن الخالدي بدءاً من الملك واستقباله الملكي في المطار من ولي ولي العهد ونائب وزير الخارجية ووزير الدفاع، في اللحظة التي تغادر فيها طائرة الرئيس التركي المطار، هو الدليل على ما استحقه المواطن من عناية وما يتلقاه من رعاية.
شكراً للاستخبارات، فلقد طالت القامة السعودية كثيراً بعد هذه الخطوة، ووصلت الرسالة إلى متلقيها وإن كره سطوة لغتها.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Jasser-AlJasser/