كاتب سعودي
تحدث وزير الاقتصاد والتخطيط عن البطالة قبل بضعة أيام، وأتى على عبارة اشتهرت كما النار في الهشيم. قال معاليه إنه لا يمكن أن يتم القضاء على البطالة تماماً، ولكن يمكن الإقلال منها، ثم استشهد بوجود العاطلين – ربما – من زمن النبي صلى الله عليه وسلم. الإخوة ممن يبحث عن الإثارة ويتجنب المعنى وجدوا ضالتهم وركزوا على ما جاء في آخر هذه العبارة، وتندروا بها. لكن الواقع أن الوزير محق، ففي أي مجتمع مهما كان يتمتع بالرخاء والازدهار ستجد من لم يجد له عملاً، بسبب كونه يفضل التسكع والراحة، وإن شئتم «الشحاذة» ولدينا من هؤلاء نصيب. الذي لم يتطرق إليه الوزير ولا كثير من المختصين بهذا الشأن، وهو السبب المهم في وجود البطالة، أقصد بذلك صغر الوعاء الوظيفي في المملكة، السبب بسيط وواضح جداً، فلا يمكن لأي بلد لا تتوافر فيه الجودة النوعية الراقية في الخدمات العامة أن يسلم من البطالة. وجود الجودة يخلق الوظائف، وغيابها يخلق البطالة. إذا أردت أن تقلل من البطالة فعليك رفع مستويات الجودة في الخدمات. وعندما لا تفعل فكأنك في الواقع تعيش وتواجه مجتمعاً فقيراً، وكلنا نعلم أن البطالة تزداد في الدول الفقيرة وتقل في الدول الغنية المتقدمة. لهذا فالسؤال هو: لماذا وضعنا أنفسنا في قائمة الدول الفقيرة من ناحية الخدمات وجودتها؟ وكيف لنا بأية حال من الأحوال أن نواجه البطالة ونحن نتصرف كفقراء؟
اسمحوا لي أن أتوغل قليلاً في التفاصيل، ففي مجتمعنا السعودي، ومع بالغ الأسف، لا نجد الجودة في قطاع الخدمات إلا في الفرع المصرفي (المصارف والمؤسسات المالية) وفي فرع الاتصالات فقط. معظم القطاعات الأخرى إما أنها غائبة تماماً كسياحة المؤتمرات والمناسبات الكبرى والفن والدراما والضيافة ذات الخمس نجوم، وإما أنها رديئة المستوى كانتشار الشقق المفروشة في كل بقعة وبمستويات مهترئة، يدير كامل المشروع موظف واحد أو ثلاثة من العمالة الآسيوية. المشكلة أن هذه المنشآت الفندقية، وهي تسمية مضللة، تضيف إلى عدد الغرف الإجمالي في الوطن، ما يمنح انطباعاً بأن لدينا قطاعاً فندقياً كبيراً.
قد يتساءل البعض: لماذا لا نتحول إلى دولة صناعية؟ الحقيقة أن قطاع الصناعة وحده لم ولن يسد حاجة الوطن إلى الوظائف الكلية، وأقصد بذلك توظيف العدد الأكبر من طالبي وطالبات العمل. فلا المملكة، وهي دولة غير صناعية بالطبع، ولا أعتى الدول الصناعية، تكتفي بقطاع واحد كالصناعة لخلق الوظائف الكافية لأبنائها. ولو توغلنا قليلاً ووصلنا إلى الأرقام لوجدنا الخريطة التالية لقوى العمل في دول متقدمة عدة حول العالم، وهي متوفرة في موقع CIA.gov وبإمكان الجميع الإطلاع عليها.
اليابان بعدد القوى العاملة لديها والبالغة ٦٥ مليون رجل وإمرأة، يشكل القطاع الصناعي لديهم في عدد الوظائف ٢٦ في المئة فقط، والزراعة أربعة في المئة، بينما يشكل قطاع الخدمات كالمصارف والسياحة والترفيه والضيافة والاتصالات والنقل والتسويق وغيرها ٧٠ في المئة. لنتناول الولايات المتحدة، التي تملك أكبر اقتصاد في العالم والدولة التي لا يشك في قوتها الصناعية أحد، في هذه الدولة يوجد أكثر من 160 مليون عامل وعاملة بمختلف المجالات، ولديهم تصنيفات أكثر من اليابان في تحديد أماكن العمل وأنواع المهن. ففي قطاع الزراعة وصيد الأسماك والغابات يعمل واحد في المئة فقط من العدد الكلي. وفي الصناعة ونقلها وتغليفها يعمل ٢٠ في المئة. وفي المهن الإدارية والطبية والفنية والمديرين عموماً ٣٧ في المئة، وفي مجال المبيعات ٢٧ في المئة، والبقية ١٦ في المئة في قطاع الخدمات المختلفة المتبقية. وأختتم في فرنسا لتوضيح الصورة أكثر وأكثر، العدد الإجمالي للقوى العاملة ٣٠ مليون مواطن ومواطنة ومقيم. ثلاثة في المئة منهم فقط في الزراعة على رغم كثرة المحاصيل الزراعية هناك. و٢١ في المئة في الصناعة، و٧٦ في المئة في قطاع الخدمات، أي ما يقارب ٢٢ مليون نسمة.
لذا فالواجب علينا قبل أن نتحدث عن البطالة أن نتحدث عن حجم الوعاء الوظيفي المتوفر في المملكة، ونتساءل: هل هذا الحجم يتناسب مع مكانة المملكة وقوتها الاقتصادية وسعتها الجغرافية وعدد سكانها؟ لو تحدثنا عن ذلك فسنكتشف أن البطالة لم تأت بعد، وأنها في الطريق إلينا وبأرقام مرعبة. الاقتصاد يتأثر مباشرة بالوضع الاجتماعي، والأخير في المملكة لا مثيل له في العالم. مجتمعنا يمتاز بخصوصية منغلقة على نفسها. معظم الخدمات التي عادة تتوافر في المدن الكبرى ويشترك في استخدامها الناس تعتبر غائبة عنا في المملكة. وعوضاً عن هذا الغياب أصبحت منازل الناس هي التي توفر الكثير. الولائم والمناسبات وحتى السينما أصبحت داخل البيوت، وجميعنا ندرك أن البيوت وما يدور داخلها لا يحتاج إلى وظائف صيانة وتشغيل. الظروف الاجتماعية نفسها هي التي تحد من قدرات المملكة على فتح أبوابها للسياحة واستضافة المناسبات الكبرى السنوية أو الدورية. وكلما زاد هذا الانكماش والانغلاق قلّت فرص العمل في عدد من القطاعات.
إذاً قبل أن نلوم هذا الوزير أو ذاك علينا إلقاء اللوم على أنفسنا وعاداتنا وتقاليدنا التي لا تمنح المستثمر الفرصة للمغامرة وتوفير الخدمات الراقية للجميع، كون المجتمع في النهاية سيفضل ما يمارسه خلف أسوار المنزل، وبالتالي كل ما سيحتاج إليه هو طاقم من الخدم. لن يحتاج إلى إدارة ولا إلى مقر ولا تدريب. ربما لو نبدأ بدرس هذه المواضيع بعمق سنكتشف الرابط الذي أشرت إليه مدعوماً بالحقائق والأرقام، وليتنا نفعل ذلك قبل فوات الأوان.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Fahad-Al-Dgheter