كاتب سعودي
في بداية الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م)، كان البريطانيون مرعوبين جداً، خوفاً من أن يعلن خليفة المسلمين آنذاك، السلطان العثماني عبدالحميد الجهاد ضد قوات التحالف وخاصة قوات بريطانيا العظمى، المتواجدة بكثافة في المشرق العربي ومصر والسودان، والهند وبعض دول أفريقيا؛ وقوات بريطانيا منغمسة حتى أذنيها في الحرب الدائرة في القارة الأوروبية بين قوات التحالف (بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا وروسيا، ومن ثم أميركا)، وقوات المحور (ألمانيا والنمسا والمجر والدولة العثمانية). لم يفعلها السلطان عبدالحميد، ولكن بريطانيا العظمى اقتنصت الفرصة وفعلتها، وذلك بأمرها لحليفها في المنطقة الشريف حسين، بإعلان الجهاد ضد قوات الخلافة الإسلامية العثمانية. الشريف حسين أعلن الجهاد ضد قوات الدولة العثمانية في الحجاز وفلسطين والشام، فتجمع لديه أشرس وأقوى المقاتلين من البدو والحضر، وشكل ما سمي حينها بجيش الثورة العربية، الذي اكتسح بقيادة ضابط الاستخبارات البريطاني، المعروف بلورنس العرب، القوات العثمانية، من دون أي عناء يذكر، ومزقها وطردها حتى فرت مذعورة لحدود تركيا الجغرافية.
إذاً هكذا اكتشف الغرب، بقيادة بريطانيا العظمى أحد مكامن القوة الساحقة، في الدين الإسلامي، والتي من الممكن استخدامها لصالحها؛ خاصة كونها قد توصلت لطرق ووسائل تفجيرها واستغلالها، وحرمان أعدائها حتى ولو كانوا مسلمين من فعل الشيء نفسه. بعد الحرب العالمية الثانية 1945، انقسم العالم إلى معسكرين: معسكر غربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ومعسكر شرقي مضاد بقيادة الاتحاد السوفيتي. وبسبب توازن الرعب النووي بين المعسكرين استحال قيام حرب مباشرة بينهما؛ وعليه اشتعلت بينهما ما عرفت بالحرب الباردة، التي تعتمد على الحروب بالوكالة، والتي يشنها أطراف ينتمون بشكل غير مباشر لهذا المعسكر أو إلى ذاك. وحيث ورثت الولايات المتحدة استغلال الدين الإسلامي لصالح مشروعها الغربي، من سابقتها بريطانيا؛ أخذت تطبقه بنفسها وبطريقتها الخاصة.
في البداية، استخدمت وكالة الاستخبارات الغربية بقيادة الاستخبارات الأميركية، الأصولية الدعوية، لوقف المد العربي القومي اليساري في المنطقة العربية، والتمدد مكانه، وقد تم تشكيل هذه الأصوليات من قبل قوى محلية، بدعم وتشجيع من المخابرات الأميركية. وبنفس الوقت خططت الولايات المتحدة لمحاصرة الاتحاد السوفيتي من الجنوب، بشريط من الأصوليات الإسلامية، لوقف التمدد الشيوعي في المنطقة، وبنفس الوقت، تجهيزها لغزو الاتحاد السوفيتي وتفكيكه عن طريق التوغل داخل الجمهوريات السوفيتية الإسلامية. وقد حققت الولايات المتحدة نجاحات علنية وسرية في دعمها للأصوليات الإسلامية، خلال حربها الباردة ضد الاتحاد السوفيتي.
في عام 1979، دخلت قوات الاتحاد السوفيتي، أفغانستان، لحماية حليفتها الحكومة الأفغانية هناك؛ حينها اقتنصت الولايات المتحدة الفرصة، وحولت بعض أصولياتها الدعوية، لأصوليات جهادية، وزجتها في أتون الحرب في أفغانستان. الأصوليات الجهادية الإسلامية، نجحت في إحداث نزيف في الجرح السوفيتي في أفغانستان؛ مما اضطرها للانسحاب منها، وبعد سنوات قليلة، تفكك الاتحاد السوفيتي. وهكذا نجح الغرب ثانية وثالثة، في استخدامه للأصولية الإسلامية في صراعه مع الشرق.
ولكن بعد الحادي عشر من سبتمبر، اكتشف الغرب وخاصة أميركا، أنها كانت تنام مع الثعابين، التي التفت عليها وأخذت تلدغها وحلفاءها في المنطقة، بعدما لم تجد من تلدغه. ومع هذا لم ييأس الغرب من فائدتها له؛ حيث استخدمها للمرة الألف خلال الربيع العربي، في ليبيا وسورية؛ مع كونه، بنفس الوقت، يقاتلها في مالي.
إذاً فقد تمت التعمية على حقيقة جوهر صراع المحاور في المنطقة، وتغليفه دينياً ومذهبياً، من أجل حشد الأنصار لهذا المحور أو ذاك؛ مما خلق أصوليات، استماتت لمثل هذا الطرح، واعتبرت نفسها الأجدر بإدارته من السياسيين الرسميين الذين أوجدوها، حيث الحرب تقع ضمن جوهر تخصصها وهمها. الأصوليون هم عبارة عن أثلاث فقهاء، وأرباع سياسيين، ومئة بالمئة عقائديون؛ ولذلك أداروا صراعهم مع الآخر الداخل، بالقليل من الفقه، ومع الآخر الخارج، بالأقل من السياسة، ومع كليهما بالكثير جداً من العنف العقدي. ونتيجة لذلك فالأصوليات مصابة بالعمى السياسي، والبله الاستراتيجي، والتخمة الأيديولوجية؛ حيث أدت صراعاتها مع من حولها في الداخل والخارج، لنشر الرعب والخراب حيثما حلت أو ارتحلت. الأصولية في بنيتها الماضوية تضيق على نفسها، ناهيك عن أن ينتظر منها أحد أن تنفتح عليه. ولو لم تضيق الأصولية على نفسها بالسرعة والدرجة التي تتطلبها بنيتها، بسبب ارتباطها بالسياسة؛ لخرج من رحمها أصولية أو أصوليات تضيق على الأصولية الأم وتشهر السلاح عليها وعلى من يعولها.
استخدام الأصوليات في الحروب هو أخطر من استخدام السلاح الكيماوي أو البايلوجي، مع خطورة هذين السلاحين، حيث إن هذين السلاحين ينتهي مفعولهما بعد الحرب؛ ولكن مفعول الأصوليات، يكمن في إخراجها من قمقمها وعليه عدم إمكانية إرجاعها إليه بنفس السهولة التي تم إخراجها منه. وكذلك كون الأصوليات تتشظى على نفسها، مثل نواة الذرة وتولد غيرها من رحمها، وتبدأ بشن صراعات في ما حولها وفي ما بينها. فلحروب الأصوليات منطقه الخاص به، وعليه يدور رحاها، في منطق عالم غير العالم الذي تعيش فيه، مع كونه هدفها المباشر. الشعوب العربية، هي شعوب أمية سياسياً وفقهياً ولكنها كالأصوليات، منغمسة حتى آذانها في البعد العقدي؛ وهذا سهل على الأصوليات توفير الحاضنات الاجتماعية لها، أينما حلت وأينما ارتحلت.
الأصوليات تمزق المنطقة إلى طوائف وشيع، ولو اعتقدت هي بأنها توحدها تحت راية الإسلام السياس أيديولوجي؛ بهدف إحياء مشروع الخلافة الإسلامية من جديد، ولذلك لكون جوهرها إقصائيا وإمكانياتها الفكرية ضحلة والمادية ضعيفة، حرمت من رؤية المشهد الاستراتيجي المحلي والإقليمي والدولي، بشكل عام ودقيق. وعلى ذلك فالأصوليات هي آخر من يوحد المنطقة، فمشروعها، إذا كان لها مشروع؟ هو تقسيم المنطقة وتفتيتها، كما ذكرنا لطوائف وشيع، حيث كل أصولية تنقسم على ذاتها وتولد أصوليات أخرى أضيق منها، فتتنازع الأصوليات المولدة، الشرعية الدينية مع الأصوليات الأمهات، التي رعتها وأوجدتها.
وهكذا تبدأ الأصوليات تصارع خارج جوهر صراع المحاور، التي أوجدتها، مع كونها تصطف ضمنها. وبما أن الأصوليات صادقة مع نفسها ومبادئها التي عاهدت الله على الالتزام بها، والتي هي عبارة عن قشور صراع المحاور، والتي حولتها من قشور صراع المحاور لجوهر صراعها داخل المحاور وخارجها. وهذا يفسر تحويل بعض الأصوليات جبهة صراعاتها من صراع مع المحور الذي أوجدها ومولها وسلحها وجمع وجند الأنصار ضمن صفوفها؛ إلى الصراع ضده، والتحول السريع لجبهة العدو التي أوجدت لقتاله.
كما أن عنت وتجبر وصلف الأصولية الصهيونية في فلسطين، حفز وأجج بصورة مباشرة الأصوليات في المنطقة وشرعن لوجودها. إذاً فالأصوليات الدينية في المنطقة ليست مرضا بحد ذاتها وإنما هي عرض لمرض الفراغ والفلتان الاستراتيجي وغياب التنمية البشرية العلمية الراشدة في المنطقة.
الغرب غير جاد في القضاء على العبثية الأصولية في المنطقة، والقوى المحلية لا تؤهلها ثقافتها، المتقاطعة مع الثقافة الأصولية على فعل ذلك. البراجماتية الغربية لا تريد إطفاء جمر الأصوليات؛ ولكنها تذر الرماد عليها مؤقتاً، لتنفخ فيه وتسعره، متى شاءت وأين شاءت وحيث شاءت وضد من تشاء.
المصدر: الوطن أون لاين