صحافي لبناني مقيم في لندن. حائز إجازة في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت وماجستير من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن.
جاء على رأس تقرير إخباري قصير في إحدى كبريات الصحف اللبنانية عنوان هو حرفيا: «من يسعى لتوريط حزب الله بمواجهة مع إسرائيل؟».. السؤال يوحي بأن حزب الله بات يعد مواجهة إسرائيل «ورطة»، مع أنها كانت المسوغ المبدئي الوحيد لاحتفاظه بسلاحه دون سائر أفرقاء الصراع اللبناني بين 1975 و1990.
يومذاك تخلى هؤلاء الأفرقاء عن سلاحهم مع أنهم كانوا يعدونه سلاح دفاع عن النفس والوجود في حرب بدت لفترة طويلة «حرب إلغاء» مصيرية. تخلوا عن السلاح لأنهم رأوا أن غاية بناء الوطن أسمى من آليات هدمه. وحصل التفاهم على الأولويات في الطائف، وكان على رأسها الوفاق الوطني، وبناء الدولة والمؤسسات، وصب الجهود باتجاه الإعمار وتعويض لبنان ما فاته عبر 15 سنة من التدمير والتهجير.
طبعا كان هناك، في جنوب لبنان، احتلال إسرائيلي. وأقر اللبنانيون، جميعا، بهذا الواقع فارتضوا باحتفاظ «المقاومة» بسلاح «يقاوم» ذلك الاحتلال. بل أحبوا – في حينه – ذلك السلاح وأحبوا «المقاومة». وهكذا تعايش، جنبا إلى جنب، الساعون إلى بناء الدولة والساعون إلى تحرير الأرض. وتصور الجميع، إلى حين، أن الأهداف مشتركة والرؤية واحدة. ولكن مع الأسف، سرعان ما أخذ اللبنانيون وغير اللبنانيين يكتشفون حقائق كانت تمر بالبال حينا.. ثم توارى أو تتوارى.
اكتشفوا أن بعض رعاة «اتفاق الطائف» ما كانوا يريدون تطبيقه إلا وفق مفاهيمهم ومصالحهم، تماما كحالهم عندما تدخلوا في عقد السبعينات تحت ذريعة إصلاح ذات البين والتقريب بين اللبنانيين، و«ردع» المنساقين وراء الفتنة.. ليتبين لاحقا أنهم كانوا يصبون الزيت على النار كلما لاحت في الأفق فرصة تفاهم بين اللبنانيين. وكانوا وراء معظم الاغتيالات السياسية التي راح ضحايا لها قادة وشخصيات كانوا يستطيعون عند مفاصل معينة اتخاذ قرارات شجاعة بوقف الانزلاق نحو الهاوية. أما السبب فكان، بالذات، تسريع ذلك الانزلاق لكي يتحول لبنان إلى «دولة فاشلة» يطالب المجتمعان الدولي والعربي بوضعها تحت الوصاية!
وانسحبت إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، لكن حزب الله امتنع عن تسليم سلاحه بحجة أن الانسحاب منقوص ولا يشمل إخلاء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلة عام 1967. ومجددا، رغم المطالبة اللبنانية الخجولة لنظام دمشق بإبلاغ الأمم المتحدة بـ«لبنانية» المزارع والتلال، رفضت دمشق الطلب مصرة على بدء ترسيم الحدود بالكامل انطلاقا من شمال لبنان. وفي هذه الأثناء تشنجت العلاقات بين دمشق ورفيق الحريري الذي غدا أقوى زعماء المسلمين السنة في لبنان. وتمكنت دمشق من إزاحته عن رئاسة الحكومة وحاولت جهدها إسقاطه في الانتخابات العامة، غير أن الحريري حقق فوزا كاسحا غير مسبوق.
وفي فبراير (شباط) 2005 بعدما كانت دمشق قد فرضت التجديد (نصف فترة) لرئيس الجمهورية المقرب إميل لحود، اغتيل الحريري… وجاء الاغتيال أكبر من استهداف شخص بل ضربا لحالة سياسية ذات أبعاد إقليمية، وكان حقا مفصلا استثنائيا أيقظ كثرة من اللبنانيين والعرب من سباتهم. ومن ثم، أدى التحالف الشعبي الإسلامي المسيحي العريض – الممنوع سابقا في ظل هيمنة دمشق – والمنتفض ضد الجريمة.. إلى خلق مناخ داخلي ودولي اضطر النظام السوري معه لسحب قواته من لبنان.
ولكن، مجددا، خلال فترة قصيرة صحا اللبنانيون على واقع آخر تأكد جوهره لاحقا عبر محطات أخرى. ظهر أن هيمنة «النظام الأمني اللبناني السوري» مجرد واجهة لحالة أخرى أكبر وأهم. وترك الانسحاب العسكري السوري لبنان تحت الإشراف الفعلي لبديل أقوى وأكثر فاعلية، وأقدر على اختراق الحياة السياسية اللبنانية، هو حزب الله الذي أسسته الجمهورية الإسلامية في إيران خلال عقد الثمانينات، ومن ثم رعته ومولته ودربت عناصره. «الحزب» في فترة «المقاومة» ما كان مضطرا للإعلان عن دوره السياسي الكامل طالما ظل الوجود السوري يفي بالغرض، غير أن الانسحاب فرض تولي «الحزب» الدور المولج به مباشرة.
بعد الانسحابين الإسرائيلي والسوري لم يعد «الحزب»، عمليا، حركة «مقاومة»، بل صار قوة سياسية تحالف زيدا وتناوئ عمرا، وتصطنع الحلفاء والأتباع، وتمولهم وتحميهم، وتفرض تعيين المحاسيب والأعوان – حتى من الطوائف الأخرى – بهدف إحداث اختراقات بداخلها، وذلك بفضل انفراده بالسلاح والأموال.. التي وصفها أحد قياديي «الحزب» ذات يوم بـ«الطاهرة»!
أكثر من هذا، أطلق أمين عام «الحزب» السيد حسن نصر الله، ردا على منتقدي ارتباطه بطهران، قوله الشهير إنه يعتز بأن يكون «جنديا في جيش الولي الفقيه». وبالفعل، أثبت «الحزب» مرتين عامي 2006 عبر افتعاله مواجهة مع إسرائيل، ثم مهاجمته بيروت والجبل عام 2008، وكذلك إسقاطه حكومة سعد الحريري منتهكا التعهد بالمحافظة عليها، أنه أكبر من لبنان – الدولة ولا يلتزم بمؤسساته الدستورية. وأخيرا، جاءت الثورة السورية لتسقط آخر الشكوك حول طبيعة «الحزب» ودوره الإقليمي مع غيره من الفصائل الشيعية الشرق أوسطية المقاتلة، بمباركة طهران، دعما لنظام دمشق.
لبنان يواجه خلال الأسابيع المقبلة استحقاقات كبرى، منها تداعيات الأزمة السورية عليه وانتخاب رئيس للجمهورية، لكنه يواجهها وهو عاجز عن تشكيل حكومة، وعرضة للعمليات الإرهابية، بينما تشكك أوساط طائفية لبنانية – ضمنيا حتى الآن – بحياد الجيش إزاء حركة المسلحين عبر الحدود السورية وتشدده ضد الأصوليين السنة مقابل مهادنته حزب الله. أما «الحزب» فيواصل الزعم أنه يحمل «مشروع مقاومة» و«يحارب التكفير».
كثيرون بعد أحداث الأسبوع الماضي في صيدا، بجنوب لبنان، استنكروا التعرض للجيش.. وهذا واجب. ولكن يخطئ من يستهين بما يعتمل في الشارع اللبناني، وبالأخص داخل الشارع السني. فالكراهية هنا وصلت إلى منتهاها، وتحول بعض الشارع السني في لبنان، كما تحول من قبل في سوريا والعراق، إلى «بيئة حاضنة» للأصولية.. اضطرارا لا اختيارا.
باختصار، السماح لمشروع الهيمنة الإيراني بالمضي قدما تحت شعار «مشروع المقاومة» قد يدفع المنطقة كلها إلى الهاوية.
المصدر: الشرق الأوسط