كاتب سعودي
مرت نظريات التأثير الإعلامي بتغيرات كبيرة خلال النصف الثاني من القرن الماضي، إذ من التقليدي الحديث عن بداية نظريات التأثير الإعلامي بنظريات «الحقنة والرصاصة» والتي كانت تعطي للإعلام تأثيراً كبيراً وحاسماً في الجمهور، قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها؛ وهو ما عزز ظهور الدعاية السياسية «البروبوغندا»، ولاسيما في ألمانيا والولايات المتحدة؛ باعتبار تأثير الإعلام في المتلقي مطلقاً ولا يمكن أن يرد كتأثير الرصاصة أو الحقنة.
تلك الحقبة البحثية تأثرت بانتشار الصحف الصفراء في الولايات المتحدة في القرن الـ18. إذ تم اعتبار الصحف الصفراء، والروايات الرخيصة (سعراً ومضموناً) خطراً يهدد القيم الاجتماعية، ظهرت تأثيراته لاحقاً. فتم شن حملات شديدة على الإعلام باعتباره يغير المجتمع إلى الأسوأ، ويحمل تأثيراً لا محدود في الأفراد.
بعد الحرب العالمية الثانية، ومع تطور أدوات البحث الأكاديمية، ظهر جيل جديد من الدراسات الإعلامية، صيرت حقبة الخمسينات والستينات حقبة نظريات التأثير الإعلامي المحدود بامتياز.
فتمت الاستفادة في حقل الإعلام من المناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية، والتي تعتمد على المناهج العلمية التجريبية؛ من أجل دراسة تأثير الإعلام على الفرد. ويعتبر النمسوي بول أزارزفلد أبرز المؤثرين في هذا المجال في أميركا خلال تلك الفترة.
النتائج التي أظهرتها تجارب أزارزفلد أكدت دحض نظريات التأثير الكلي للإعلام على الفرد (مثل نظريات الحقنة والرصاصة)، وأكدت أن الإنسان يمتلك عناصر أخرى تحبط أي تأثير كلي للإعلام. فالأصدقاء والأسرة والتعليم والدين… عوامل متعددة تجعل تأثير الإعلام محدود، ويمكن للإنسان مقاومته.
بطبيعة الحال لم يستمر الوضع على هذا المنوال طويلاً، إذا عادت فترة السبعينات من القرن الماضي لتحمل نقاشات تعيد الاعتبار للنظريات التي تعطي الإعلام قوةً وتأثيراً في التغيير الاجتماعي، لكن سرعان ما تحول النقاش من دراسة تأثير الإعلام في الفرد، إلى حجم هذا التأثير. وهنا نكون قد تجاوزنا كل نظريات التأثير الإعلامي الكلي، وبدأنا نقاش التفاصيل.
يمكن القول أنه لا يوجد إثبات على أن للإعلام قدرةً كبيرةً على التغيير الاجتماعي؛ إذ النقاش يتراوح بين الجدل حول تأثير محدود في السلوك، إلى انعدام هذا التأثير، إلى قدرته على تعزيز ما هو سائد اجتماعياً.
نجد لهذه الفكرة تطبيقات مختلفة، فعلى سبيل المثال، لا يوجد إثبات علمي لتأثير الأفلام الإباحية على سلوكيات مستهلكيها الجنسية. أو لا يمكن الجزم بعلاقة بين ألعاب الفيديو العنيفة والعنف. كما فشل إثبات تأثير أفلام العنف في سلوك المشاهدين سابقاً، بل ظهرت أفكار مضادة تعتبر أن مشاهدة أفلام العنف تؤدي إلى تفريغ النزوع إلى العنف لدى الفرد، وهو ما يجعله شخصاً أقل عنفاً. كلتا الفكرتين: التي تعتبر مشاهدة أفلام العنف سبباً لارتكاب سلوكيات عنيفة، أو تفرغ المشاهد نوازع العنف، لا يمكن الاعتداد بهما اليوم.
باتي فالكنبورغ وجوشن بيتر في دراسة لهما، حول التحديات المستقبلية لأبحاث التأثير الإعلامي، يؤكدان أن النقاش حول أهمية وحجم تأثير الإعلام في الأفراد بدأ مع بداية دراسة التأثير الإعلامية كحقل أكاديمي، ويستمر بوجوده، مؤكدان عدم وجود تأثير كلي وشامل للإعلام في الأفراد، وإن كان هناك حديث عن تأثير فهو محدود جداً. الفكرة التي يحاول الباحثان طرحها هنا أن تأثير الإعلام مشروط بأسباب لا حصر لها، تتعلق بالإنسان ومزاجه ومعتقداته وسياقه الاجتماعي…، وهو ما ينفي أن يكون للإعلام تأثير مباشر في سلوك الأفراد.
العودة إلى هذا النقاش اليوم يرتبط بالحديث عن أثر التحريض على أعمال العنف، ولاسيما تلك التي شهدتها المملكة أخيراً؛ باعتبار أن من نفذ الجرائم الإرهابية تأثر بخطابات طائفية تبث عبر وسائل إعلامية مختلفة. الحقيقة يمكن تسجيل ملاحظات عدة حول هذه الفكرة.
غالباً من يتحدث عن «التحريض»، دافعاً لأعمال العنف، لن يعتقد بأن خطابات التسامح كافية لإزالة خطر العنف، مع أن الرسالة الإعلامية هنا تواجه برسالة أخرى. على العكس من هذا، وصفت خطابات التسامح بعد الأحداث الإرهابية بأنها خطابات «تكاذب» بدلاً عن تشجيعها واستثمارها على المدى البعيد.
من هنا إذا كانت خطابات التسامح غير كافية لإزالة خطر العنف، والوعظ لا يعالج الإرهاب، كيف يمكن أن تكون خطابات التحريض سبب له؟
النقطة الأخرى، تتعلق بفهم الواقع الإعلامي اليوم. فالنظريات الإعلامية سالفة الذكر، كانت تدرس جمهوراً يتابع وسيلة إعلامية واحدة. حقيقة، لا يوجد جمهور من هذا النوع اليوم. فنظريات التأثير الإعلامي غير المحدود ظهرت في أوج انتشار الصحف الصفراء، ثم الراديو، وبدايات التلفزيون وانبهار الجماهير به. فهي حديث عن جمهور واحد يتابع وسيلة إعلامية واحدة. اليوم، لا يمكن الحديث عن جمهور من هذا النوع، فالإنترنت سمحت لتنوع هائل في وسائل الإعلام، وتشظٍّ للجماهير، إذ يستحيل أن يوصف خطاب واحد بأنه يحتكر الإعلام، أو يمتلك تأثيراً على المجتمع بشكل كلي.
النقطة الأخيرة، تتعلق بتنظيم داعش نفسه وأفراده. فهؤلاء أصلاً مختلفون مع المشايخ الذين يُتَّهمون بالتحريض عقائدياً وسياسياً، بل ويكفِّرونهم. من هنا كان ربطُ منفذ العملية بخطاب شيخ يظهر في قناة تلفزيونية أو يكتب في «تويتر» ويمارس التحريض، ربطاً اعتباطياً، إذا كان هذا المنفذ يكفر هذا الشيخ أصلاً.
التحريض على القتل مرفوض سواء أكان بحق فرد أم دين أم مذهب. ويمكن التعامل مع هذه الدعوات قضائياً. كما أن التحريض ضد فرد أو مجموعة ينافي العدل. لسنا بحاجة إلى وضع ربط اعتباطي بين جريمة وخطاب «ما»؛ من أجل نقد هذا الخطاب.
المصدر: الحياة