كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي
إذا استثنينا الخليج، فإن المنطقة العربية أصبحت محاطة بحزام من العنف الإرهابي، الذي يقتل ويدمر ويهجر آلاف البشر. منذ هجمات «القاعدة» على أميركا في الحادي عشر من سبتمبر 2001 وإلى اليوم، تمر 13 عاماً والإرهاب يزداد ضراوة ووحشية، ويسقط الضحايا من المدنيين، نساءً وأطفالا وأناساً بسطاء على امتداد الساحة العربية والإسلامية من غير ذنب. شباب مسلم متحمس دينياً، يقومون بتفجير أنفسهم في مسجد أو ضريح أو فندق أو سوق شعبي أو مجمع تجاري، وتُزهق أرواح آلاف في سبيل عقيدة «الجهاد» المشوّهة، يحسبون أنفسهم «شهداء» ويعدون إجرامهم «جهاداً». هم من قال الله تعالى فيهم في محكم كتابه: «الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً».
الحياة نعمة عظيمة من المولى تعالى، والذين يسعون إلى قتلها هم الجاحدون لنعمته، مُلئت نفوسهم كراهية وبغضاً، إذ لا يقدم على قتل نفس معصومة إلا صاحب نفسية غير سوية، تعادي الحياة والأحياء والمجتمع والحضارة. هؤلاء الشباب الذين تحولوا إلى أحزمة ناسفة وقنابل بشرية متفجرة هم أبناء «ثقافة الكراهية»، هم نتاج ثقافة متعصبة وأيديولوجيا عدوانية لا تقيم وزناً للحياة ونِعم الله تعالى. ومهما تحدث المنظرون عن العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية التي تدفع هؤلاء الشباب إلى تفجير أنفسهم في الأبرياء، إلا أنها في النهاية ترجع إلى عامل رئيسي واحد هو «ثقافة الكراهية».
هل تساءلنا: ما الذي يدفع شاباً واعداً، في عمر الزهور، لا يشكو مظلمة سياسية ولا ضائقة مالية، إلى طريق القتل والتفجير وإزهاق أرواح الأبرياء؟!
يقولون: إنه فتاوى التكفير وخطاب التحريض وعمليات التغرير.. عبر آلاف المواقع الإلكترونية وبعض الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي التي تبث «فكر الكراهية» فتغسل أدمغة غضّة طرية، وتدفعها للالتحاق بتنظيمات وقوى الشر والهلاك، وتجندها في خدمة مخططاتها العدوانية.
لكن لماذا سلطان فتاوى التكفير ودعوات التحريض والتغرير على بعض الشباب فحسب، فيما الآلاف من الشباب لا سلطان لها عليهم؟!
يقولون: إنها «القابلية النفسية» للفكر العدمي، والتي تجعل قطاعاً من الشباب يستجيب وينقاد وينخرط في صفوف قوى الظلام. هي قابلية تنشأ منذ مرحلة التنشئة الأولى في نطاق الأسرة، يعبّر عنها المفكر السعودي الفذ إبراهيم البليهي بـ«البرمجة»، وهي مرحلة تسبق مرحلة التعليم، يمتص خلالها الطفل امتصاصاً تلقائياً الثقافة المحلية المحيطة -إيجاباً أو سلباً- فيتبرمج بها، تعقبها مرحلة التعليم وأساسها التلقين والرأي الأحادي، وهو لا يُنمي عقلية واعية وبخاصة إذا تم على أيدي مربين أيديولوجيين يرسخون الثقافة السلبية في عقلية ونفسية الطفل، ثم تأتي مرحلة التحريض من قبل دعاة التكفير وخطباء الكراهية، لتجتذب تلك النفسيات القلقة ولتكتمل الدائرة الخبيثة وليكون ثمرتها هذا العنف الإرهابي المدمر.
لقد تأملت طويلا في حياة هؤلاء الذين التحقوا بهذه التنظيمات، وتتبعت تنشئتهم المبكرة في محيط الأسرة والمدرسة والجامع والجامعة، فوجدت أن 90 في المئة منهم، عانوا من تنشئة بائسة ومحبطة، وجدتهم ضحايا لأسر مفككة إما بسبب طلاق تعسفي، أو تعدد جائر، أو أب عنيف مهتم أو لا بملذاته أو مصالحه الشخصية، فأهمل مسؤوليته التربوية، ورسّب عقداً في نفسيات غضّة منذ التنشئة الأولى. هؤلاء المفجرون الانتحاريون، هم أبناء أسر، افتقدت الحنان والدفء والتواصل العاطفي، فافتقدوا التحصين النفسي في إطار الأسرة، كما افتقدوا التحصين الثقافي في محيط المدرسة والجامع والمجتمع. إنهم أشبه بمن تعرّض لمرض «نقص المناعة المكتسب» مكشوفاً أمام غزو الفيروسات.
ومما يؤكد هذه الفرضية أن كثيراً من الآباء الذين نكبوا بالتحاق أبنائهم بهذه التنظيمات، ناشدوا السلطات المختصة بإعادة أبنائهم من ميادين الهلاك، وهم يرددون أن أبناءهم أبرياء مغرر بهم. يقول أحد الآباء المفجوعين بفقد ابنه في رسالة حزينة: «ابني البكر-17 ربيعاً- غررّوا به، زيّنوا له طريق الموت، أقنعوه بتفجير نفسه». لم يسأل هذا الأب نفسه: لماذا تمكن «المغررون» من ابنه دون أبناء الآخرين؟! أليس بسبب إهماله في تربيته وعدم مراقبته له وعدم بذل الجهد في «تحصينه» نفسياً وعاطفياً؟
لذلك أرى أن التحصين هو المهمة الرئيسية لكل أسرة عربية تجاه أطفالها في هذا العصر الذي هو عصر التطرف. إن مسؤوليات الأسرة أصبحت مضاعفة تجاه تحصين الأطفال بما يمكنهم من مواجهة فكر التطرف والكراهية.. وبطبيعة الحال فالمسؤولية شاملة لكافة مؤسسات الدولة والمجتمع، لكن الأسرة هي الأساس، إذا كانت دولنا تحصن أطفالنا بمختلف التحصينات الوقائية ضد الأوبئة المنتشرة، فإن أطفالنا اليوم أصبحوا بحاجة -أيضاً- إلى جرعة من التحصين الفكري والنفسي تجاه الأوبئة الفكرية.
وختاماً، فإن هؤلاء الشباب الذين انقلبوا على المجتمع والدولة، ناقمين، كارهين، مفجرين، هم أبناؤنا، تربوا في أحضاننا، ورضعوا من ثقافتنا، وتعلموا في مدارسنا ومنابرنا الدينية والإعلامية، أخفقنا في تحبيبهم في الحياة وفي إعمارها وتنميتها وإسعاد مجتمعاتهم ففضلوا الموت، ولا يعفينا أن نردد بأنه «مغرر بهم» وأنهم «ضالون»، من مسؤولياتنا الدينية والأخلاقية والوطنية تجاههم.
المصدر: الاتحاد
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=81164