في الشارع، وفي الأماكن العامة، وأمام أبواب المساجد، حالات عديدة من البشر يطرحون أنفسهم كفقراء ومُعْدَمين، ومعوزين، ومحتاجين، وتمتد أيديهم بضراعة وذل وهوان وخنوع، وركوع، وبوجوه مكدورة وقلوب مكسورة، ونفوس مثبورة، وأرواح محرورة، وأجساد رثة، وملابس كثّة، ما يجعل الإنسان يذعن ويزداد شجناً، وحزناً، ولا يملك إلا أن يدس يده في جيبه، ويعطي المتيسر، وبعد زوال زولة، يختفي المتسول المتنكر، ويعود بهيئة أخرى في شارع آخر أو مكان مختلف، وهكذا فالرحى تدور والاحتيال يدير عجلات الخديعة بكل براعة ودهاء، وذكاء ونباهة، ولأن آلة المشاعر لدينا رقيقة ضعيفة لينة، طيعة، فإن المحتال المتسول لا يبذل جهداً مضنياً كي يقبض على الفريسة، بل إنه يقهقه بملء فيه، ساخراً مستهزئاً مستهتراً بهذه القلوب سهلة الاصطياد.
ولذلك، فإن أغلب المتسولين أصبح البحث عن الطرائد مهنة وحرفة، ثم ثقافة لا يمكن الاستغناء عنها، وبالتالي ترسخت هذه الثقافة لتصير جزءاً من الكيان وعضواً من أعضاء المتسول التي لا يمكن أن يستغني عنها، وما يؤكد ما نشير إليه هو أن ابن الإمارات الذي أنعم الله عليه بالخير الجزيل، كان في عقود سبقت وأيام مضت وأزمان انقضت، أشد فقراً وعوزاً، وقد عاش تحت لظى الشمس الحارقة تسوطه حبال الشمس الملتهبة، وتهبه أشد العذاب، كما أن الصحراء القاحلة، ما كانت تعطي بسخاء ولا كانت تطيع الركاب برخاء، وما كانت تذلل أغصانها بكل يسر وسهولة، ولكن هذا الإنسان كان أشد جموداً، وجلموداً، وجَلَداً، وصبراً، وتفانياً وإيثاراً، كان الإنسان هناك يعاند الصحراء فيحفر في أحشائها لينهل الماء العذب، وينبت الزرع، كان يتسلق الجبال الوعرة المكفهرة العسرة، ليخصب حصاها، بعرقه، فيأتي بالثمر الجنى وما كان ييأس ولا يبتئس، ولا يرتكس، ولا يكترث لكل الصعاب لأن ثقافته تدفعه لأن يعمل ولا يمد يديه، وأن يكد ويكدح ولا يغضض جفنيه، ولا يذلل خافقيه من أجل لقمة لا تأتي من عرق الجبين.
كان يرفض ذلك لأن الصحراء الجسور علمته كيف يكون هصوراً ضرغاماً وليثاً هماماً، كان يواجه الصعب، بالمجازفة والمثابرة والمغامرة، فعبر البحار وشد رحاله إلى الأمصار، وسار في النواحي البعيدة، بطلاً مغواراً غواراً، يشجر الحياة بالحب، ويلوِّن مشاعره بالاعتزاز بالنفس وصون الكرامة بعلاقة واحدة، أنا ابن الصحراء أنا الإماراتي الشهم لا يضيره الاكتواء، أنا الإنسان الأبي، حبي للحياة يجعلني من سلالة النجباء والنبلاء والأصلاء والأولياء، أنا كل هذا وزيادة ولا مراء.
المصدر: البيان