التنوير كما يجب أن يكون

آراء

خاص لـ هات بوست: 

     يذهب الكثيرون إلى أن تجديد الفكر الإسلامي جاء – حصرًا – لمواجهة الفكر المتشدد والتنظيمات الإسلاموية المتطرفة التي وظّفت بعض التأويلات والروايات لخدمة مشروعها التخريبي، والحقيقة أنني أرى الأمر أبعد من هذا؛ من حيث أنه يطال عموم المسلمين كافة في كل مناحي الحياة وأشكال المعاملات، ومن حيث أنه يحقق الأصل الذي يجب أن تقوم عليه رؤيتنا وفهمنا للدين تعقّلًا وتدبّرًا.

     كان التنوير في نظر البعض من بني جلدتنا محل جدل؛ فالتشكيك فيه من ناحية والتوجّس منه من ناحية أخرى، واستدعاء تطبيقاته الغربية على الرغم من اختلاف السياقات التي ظهر فيها! في حين أن التنوير بمعناه البسيط – كما أفهمه – هو تفعيل العقل وتوظيفه بشكلٍ بنّاء ينعكس على حياة الفرد والمجتمع، ومن صور هذا التفعيل إعادة النظر في بعض الآراء والاجتهادات والتأويلات بالقدر الذي يراعي واقع اليوم المختلف عن واقع الأمس القريب والبعيد.

     بعبارةٍ أخرى: “عدم الاكتفاء بالوقوف أمام ما جاء به النص، بل التمعن فيما جاء من أجله من مقاصد وغايات.”

     وقد تُرجِمَت هذه الرؤية الإماراتية التنويرية في أشكالٍ عدة:

* المساواة بين الرجل والمرأة في الدية، اعترافًا بقيمة النفس الإنسانية مطلقّا.

* قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين وغير المسلمين، والتي تراعي الحقوق والواجبات والكرامة الإنسانية.

* السماح بالإجهاض في حال الاغتصاب وفق ضوابط طبية وقانونية محددة.

* الاستفادة من التطور العلمي والتقني والذكاء الاصطناعي في رصد الأهلّة والاستمطار.

* دور العبادة لغير المسلمين، ضمانًا لحرية ممارسة الشعائر الدينية دون تمييز.

* تجريم التكفير والإساءة لعقائد الآخرين، وحماية حرية الاعتقاد – أو عدم الاعتقاد – في إطار المحافظة على النظام العام.

كل هذه وغيرها نماذج تنويرية تُعنى بالفرد العادي، حيث أعادت النظر في التأويلات التي تصوغ مفردات حياته ومجتمعه وعلاقته بالآخرين.

     لقد خَطَت الإمارات خطوات سبّاقة وشجاعة في مسار تجديد الفكر الإسلامي؛ فحافظت على الثوابت، ووضعت التراث الفقهي في موضعه الصحيح – بلا إفراط ولا تفريط – من التقديس والاتباع، وراجعت وصحّحت الكثير من المفاهيم الدينية والعُرفية، واهتمت بالتفسير الحضاري للقرآن الكريم، واستبدلت فتاوى وآراءً تراعي واقع الحال بتلك التي ربما كانت ملائمة لعصرها، ولم تعد كذلك اليوم، وكل هذا في إطار تحقيق مقاصد العبادة وعمارة الأرض. ونحن نرى بوضوح الجهد المقدَّر الذي تبذله مؤسساتنا في هذا السياق، وعلى رأسها مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي وجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، وذلك في إطار منهجيةٍ علميةٍ رصينة توازن بين النقل والعقل.

     ربما – نحن أبناء الإمارات والمقيمون فيها – لسنا بحاجة لكل هذا الإيضاح؛ فلطالما كانت لدينا قيادات مستنيرة استطاعت بفطرتها السليمة وأفقها الواسع أن تتلمس الرواية الصحيحة للإسلام وتسعى لتطبيق مراد الله من الفرد والمجتمع، وقد ألِفنا هذا على مر السنين، لكن تبقى مسؤوليتنا في نقل هذه الصورة لواقع التدين والتنوير الإماراتي كما هو.

     وآخِر القول:

     “الإسلام صالح لكل زمان ومكان”، أي أن يكون منسجمًا مع كل عصر حسب تطور وعيه ومعرفته وأدواته، بما يحفظ الضرورات ويحقق القيم العليا التي أرادها الله في الأرض، وهذا يلزمه عقل يستطيع فهم أدوات ومتغيرات الواقع الذي يكون فيه.

وقد أثبتت الإمارات هذا في أفضل صورة.