التنوير وثقافة الحوار في فكر الشيخ عبدالله بن بيه

آراء

خاص لـ هات بوست: 

إن الحوار واجب ديني، وضرورة إنسانية، وليس أمراً موسمياً. ولذا أمر به الباري عزّ وجلّ فقال، “وجادلهم بالتي هي أحسن”. إذ بالحوار يتحقَّق التعارف والتعريف القرآني، فهو مفتاح لحل مشاكل العالم؛ حيث يقدم كما يقول أفلاطون البدائل عن العنف؛ لأنه بالحوار يُبحث عن المشترك، وعن الحلّ الوسط الذي يضمن مصالح الطرفين، وعن تأجيل الحسم العنيف، وعن الملائمات والمواءمات، التي هي من طبيعة الوجود، ولهذا أقرّها الإسلام، وأتاح الحلول التوفيقية التي تراعي السياقات، وفق موازين المصالح والمفاسد المعتبرة. فاعتماد الحوار لحلّ المشكلات القائمة، يوصل إلى إدراك أن الكثير منها وهمي، لا تنبني عليه مصالح حقيقية. وبهذه الحلول التوفيقية التي يثمرها الحوار، تَفقد كثير من القطائع والمفاصلات والأسئلة الحدّية مغزاها، وتتعزز ثقافة التسامح وقبول الآخر في النفوس؛ قبل النصوص.

ويفصِّل خطاب الشيخ عبدالله بن بيه الأسس المنهجية التي عليها ينبني ومن خلالها يتجذّر مفهوم التسامح والتعايش السعيد في التصور الإسلامي، وهي على ثلاث مراحل:

1- جمع النصوص المتعلقة بموضوع التعايش؛ لنستنطقها ونجمع متفرقاتها، ونغوص إلى الحكم والمقاصد.

2- تقديم التفسير الصحيح للنصوص المغايرة أو النافية للتسامح والتعايش؛ لتفنيدها قولا بالموجب، طبقا لضوابط الاستنباط ومسالك التأويل المقارب.

3 – إنزال المفاهيم على الواقع المعاصر، أي لغة الحياة المدنية والقانون.

أما السلم؛ فالشيخ ابن بيه يؤكد أن معاني التسامح والتعايش السعيد الفقهية والقيمية والمفاهيمية في الإسلام لا تستهدف غمط الحقوق بأي حال من الأحوال، وإنما تتغيَّا الوصول إليها بطرق أكثر سداداً ووسائل أقرب رشاداً، أقلّه أن الوقت الذي يضيع في المحاربة والمغالبة؛ لو استعمل بشكل عقلاني؛ بموجب قوله تعالى، “ادفع بالتي هي أحسن”، (سورة فصلت: الآية 34)، لأعطى نتائج باهرة ترضي كل الأطراف. وقد تحظى برضا الله سبحانه وتعالى، لأنها صانت الدماء والأموال والأعراض، وقلّلت الكراهية وألّفت بين القلوب. وهذا يعني أن الفرص التي يوفرها السلم على المستوى الفردي والجماعي والجمعي أو الوطني، لا تعوضها فترات النزاع والصراع التي تأتي في الغالب؛ بنتائج عكسية. فالمغالبة الحادة من أجل إصلاح وضع أو تغيير وضع فاسد، تزيد الوضع فساداً، (وتقود من دون ريب) إلى ضياع كل الحقوق، وتعريض الأوطان للضياع والتقسيم؛ ليصبح السكان “الأحياء” من دون أوطان، ويسود الخراب بدل العمران، وتخسر الدنيا والآخرة؛ نعوذ بالله من الخسران.

وهكذا يرسم الخطاب علامات الخلاص الإنساني؛ بمقتضيات الدين والعقل والأخلاق؛ على قاعدة إجرائية عملية: يجب أن نفكر ونقرر طبقا لحساب المصالح والمفاسد الجمعية؛ بطريقة التفكير خارج الصندوق، أي الجرأة النقدية والإبداعية. والغرض هو تحيين فقه الوساطات والمصالحات والتنازلات والتحكيم، وتفعيل قيم الحكمة والتسامح والمحبة؛ لترتيب بيت الأمة، ومن ثم نتقدم بأنموذج إصلاحي للعالم.

وهذا ما يجعلنا نظن أن خطاب الشيخ المجدد يقدم مقاربة معرفية جديدة؛ بل سرديّة جديدة للسّلم العالمي، وهي سرديّة غير مسبوقة. وذلك ليس لأنها المرة الأولى (أي المرة المعرفية الأولى على المستوى الكوني) التي تنضح فلسفتها من معين الثقافة الإسلامية؛ باعتبار أن الإسلام صاغ “عقائده وعباداته وشرائعه وأخلاقه؛ وفق رؤية حضارية، تنشد السلم في أسمى معانيه؛ باعتباره هو الأصل الذي يجب أن يحكم علاقة البشر ابتداء، والهدف الذي يتعين عليهم التحرك لتحقيقه”، من دون تجاوز أو إهمال التجارب الثقافية الأخرى فقط، وإنما الأهم أيضاً؛ لأنها تستعيد دور الأديان عموماً، والإسلام خصوصاً؛ باعتباره قوة للسلام والمحبة وعامل جذب بين المختلفين، وليس عامل حروب. ذلك لأن ديناميكية المحبة التي تتيحها قيم السلم في الإسلام، تتغلب على الكراهية. فالمحبة والسلام والصداقة هي رسالتنا إلى البشرية وهي شعارنا؛ باعتبار أن المحبة بادئ ذي بدء؛ تؤسس التسامح والسلم في الذات؛ من خلال الأمان العاطفي أو الشعوري الذي يمنحه الحب للنفس. ومن جهة أخرى هي سردية للسلم جديدة، مفارقة للسرديات السلمية الأخرى؛ لأنها تستعيد محورية الإنسان في الاهتمام الفلسفي والديني على السواء؛ بعد أن دفعت انزياحات الحداثة وانزلاق سيروراتها إلى متاهة التركيز على أولويات العلم وتقنيات التصنيع، ما أدى إلى التصحّر الأخلاقي على المستوى الكوني، فيعيد الخطاب وصل ما انقطع بين الله والإنسان الحداثوي، من خلال إعادة الأولوية للاهتمام بالإنسان، وذلك من منطلقات عقلانية إيمانية؛ بكل المعاني الفلسفية أو المعرفية والعلمية. ذلك لأن مقصود الحكمة والشريعة تحقيق السعادتين للإنسان. فحسب الخطاب، التفلسف هو طريقة التفكير المنطقي، أو طريقة التمكين العقلاني، والعقل هو مناط التكليف. وفقه المقاصد هو تحقيق مصالح الإنسان. ما يجعل جوهر “بذل السلام للعالم” في الخطاب، يقوم على بعد إنساني خالص، ينضح فلسفته من الجمع بين “كلّي القرآن”، و”كلّي العصر والزمان”؛ باعتبار أن الدين يرتقي بالإنسان إلى أعلى مرتبة من الكمال، وهي المرتبة التي يفترض أنها تليق بالصورة التي أرادها له الله سبحانه وتعالى؛ عندما قوَّمه وكرَّمه وفضَّله على سائر الكائنات. أما الحكمة أي الفلسفة، فسؤالها الأزلي: كيف يكون الإنسان كما يجب أن يكون، أي كيف يكون بأقرب صورة ممكنة من الكمال؛ باعتبار أن قابلية الكمال أصيلة في فطرة الخلق، وهي ما سماها ابن رشد “أوصاف الكمال الموجودة في الإنسان” في كتاب “الكشف عن مناهج الأدلة في اعتقاد المِلّة”؟

وربما غياب هذا البعد المؤنسن – على مستوى إمكانية تأطير مفهوم “بذل السلام للعالم” عن مقاربات السلم الفلسفية والأخلاقية السابقة، وغياب الوسيلة التي تجعل الفرد صالحاً بالضرورة، التي تتيحها “إمكانية اجتماعية عقلانية إيمانية” يؤسس لها الخطاب، هما بالدقّة والتحديد؛ ما حدَّ من فاعليتها المرتجاة. لذلك تلقى مقاربة خطاب الشيخ المجدّد عبدالله بن بيه اهتماماً وقبولاً دوليين واسعين؛ باعتباره أحد أهم رموز العقل الأخلاقي والحكمة الإنسانية في التاريخ المعاصر، وبخاصة في مجالي القيم الإنسانية المشتركة، وبحوث الإنصاف والسلام والتضامن.