حازم صاغية
حازم صاغية
كاتب وصحفي لبناني

الثورات العربية: استخلاصات جزئية

آراء

بطبيعة الحال، لا يزال من المبكر الجزم باستخلاصات نهائية وحاسمة حول ثورات «الربيع العربي» وما أفضت إليه، خصوصاً أن العملية لا زالت جارية، تتقدم هنا وتنتكس هناك، طارحة على الواقع احتمالات غنية سلباً أو إيجاباً.

يزيد في صعوبة الاستخلاص اكتشافنا حجم الفوارق الضخمة بين المفاهيم النظرية والكونية المجردة، كالديمقراطية والإسلام، وبين الواقع المحلي للبلدان العربية في لحظة تفجره شبه الجيولوجي، الأمر الذي يجعل القياس والمحاكمة المبكرين مهمة في غاية التعقيد.

مع هذا يمكننا التوقف أمام ما آلت إليه تلك الثورات حتى الآن، بما في ذلك الإخفاقات الكبرى التي اصطدمت بها، وبالتالي ملاحظة بعض النتائج الجزئية التي تفرض نفسها بقوة علينا. والحال أن تلك الإخفاقات لا تُضعف بتاتاً شرعية الانتفاض والثورة على أنظمة سبق أن فقدت، مرة بعد مرة، كل شرعية أخلاقية أو سياسية أو في ميدان الإنجاز تنموياً كان أم اقتصادياً أم تعليمياً. كذلك، لا تقلل الإخفاقات تلك بتاتاً من أهمية الطلب على الحرية كما عبرت عنه الشعوب العربية عبر ثوراتها. فما حصل على نطاق جماهيري واسع هو الإقرار بأن نيل الحرية إنما هو المقدمة الضرورية والشرط لإحراز كل القيم الأخرى الجديرة ببني البشر.
وهذا ما يستبعد كلياً نظريات المؤامرة التي درجت على وصف «الربيع العربي» بأنه نتاج صناعة مشبوهة وأجنبية هدفها «تفتيت الأمة» وإضعاف منعتها. ذاك أن النظريات المتهافتة تلك هي من فروع رواية الأنظمة التي قامت الثورات في وجهها، لاسيما لجهة الافتراض أن كل شيء كان على أحسن حال قبل أن تقوم الثورات. وهذا ناهيك عن إعفاء الأنظمة المذكورة من مسؤوليتها الكبرى عما آلت إليه الأمور وعما استوجب قيام الثورات نفسها.

ولا بأس، في مجال الاستخلاص، بالتوقف عند النجاح النسبي للثورة التونسيّة، قياساً بباقي الثورات العربية، الأمر الذي يؤكد بذاته أهمية تجذير الطرح الديمقراطي لدى حامليه العرب، وليس التراجع عنه. فالنجاح هذا مرده بالضبط إلى مدى انفتاح تونس على الحداثة قياساً بباقي البلدان التي ثارت. وفي هذه الخانة تندرج التجربة البورقيبية وتأثيراتها الصلبة مصحوبة بوثوق الصلة بأوروبا وأوضاع النساء وتقدم التعليم، خصوصاً معرفة اللغات الأجنبية، فضلا عن وجود طبقة وسطى عريضة. وهذه المقارنة إنما تعني ضرورة الحسم في مسألة كثيراً ما حيّرت المثقّفين العرب، كما دفعت بعضهم إلى ترجمة تحفظاتهم السياسية على الغرب إلى تحفظات ثقافية. فالمقارنة بين حظوظ الثورة التونسية وحظوظ سواها تدل إلى الطريق الذي لا طريق غيره، ولا جدوى من إعادة تقليبه على أوجه كثيرة تبديداً لحيرة لا معنى لها.

أمّا في ما خص مسألة الإسلام السياسي التي بات يستحيل من دون تناولها تناول الثورات العربية ومصائرها، فقد غدا من الواضح أن الحكم الإسلامي، إخوانياً كان أو غير إخواني، يتساوى في رداءته مع تحريم السياسة. فهذان، الحكم والتحريم، إنما يقودان، من موقعين مختلفين، إلى طريق مسدود كما يمهدان لإحكام قبضة الاستبداد أو تجديدها.

وإلى ذلك، لاسيما في بلدان كسوريا وليبيا، فضلا عن بلدان لم تعرف الثورة كالعراق، بات من الوهم التفكير في التغيير السياسي من دون إعادة النظر في تراكيب الحكم المركزية، والعلاقات بين الجماعات الأهلية المتناحرة، مع ضرورة إبداء الشجاعة اللازمة لمناقشة أي من التعديلات الكبرى على الخرائط بما يخدم السلم الأهلي، من دون أن تشكل «الوحدة» المزعومة للأوطان عائقاً دون ذلك أو تجريماً له. ذاك أن التكسر المجتمعي وتهلهل النسيج الوطني صارا أكبر من أن تتستر عليهما دعاوى «الوحدة» تلك.

وبدورها، ترقى أنظمة العسكر والأمن التي تقدم نفسها بديلا يؤمّن الاستقرار ويحول دون الفوضى، إلى اعتذار عن الثورات واستئناف للاستبداد. ولا يخفّف من ذلك الإكثار من عمليات انتخابيّة تضفي وجهاً شكلياً في ديمقراطيته على عملية متجذّرة في استبدادها. فإذا صح أن الاستقرار هدف جليل بذاته، فإن الاستقرار المصحوب بتعطيل السياسة وخنق الحرية يتحول قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت بالوطن والمجتمع.

والراهن أن ذاك الخيار الزائف بين حكم إسلامي وحكم أمني إنما يشي بأن التقدم العربي يواجه نوعاً من الانسداد التاريخي الذي لن تكفي الثورات السياسية لكسره، إذ هو يستدعي أيضاً جهداً ثقافياً دؤوباً ومديداً يُحِل معرفة الواقع الفعلي محلّ المتاهات الإيديولوجية المنتشرة في الربوع العربية، كما يستبعد الصور المتذاكية والسطحية عن التغيير لمصلحة الإدراك الفعلي لتحديات التغيير، وتالياً للأكلاف الباهظة التي لابدّ من دفعها في سبيل بلوغه.

وهنا لا بأس بالتشديد على ضرورة الثورة الثقافية في المجال الثقافي ذاته. ذاك أن التناول التكراري لثنائيات الأصالة والحداثة، أو التراث والمعاصرة، مما شغل لعقود مكتبة عربية ضخمة، هو ما ينبغي أن يخلي الساحة لمسائل وهموم أكثر راهنية وأشد اتصالا بواقع المجتمعات العربية وتراكيبها.

من ناحية أخرى، لئن شكل اعتناق النخب الثقافية العربية مواقف أشد جذرية في تبني الحداثة وقيمها مطلباً مُلحاً، فهذا ما لا يكمله ويستكمله إلا موقف لدى النُخب السياسية الغربيّة يكون أكثر حزماً وحسماً في تأييد انتفاضات الشعوب العربية وطلبها للحرية. وهنا أيضاً نجد إخفاقاً أخلاقياً كبيراً ونظرةً مصلحيةً ضيقةً يبديهما الغرب راهناً ولا يستفيد منهما إلا المستبدون المحليون والجماعات الإسلامية المتشددة.

لقد بينت الثورات العربية، والثورة السورية خصوصاً، أن امتلاك أفق كوني عريض حاجة ماسة للأطراف جميعاً، وأنه مطلب يُطلب منها كلها، أي من فاعلي الحرية في ربوعنا، لكن أيضاً من المتحدثين عنها في البلدان الغربية حيث مهد الحرية.

والسجال طبعاً سيبقى طويلا ومفتوحاً، هنا وهناك.

المصدر: الاتحاد