كاتب سعودي
ظلت الحديدة البوابة التي يتكئ عليها الحوثي وعصابته الميليشياوية باعتبارها أهم الموانئ لعبور الإغاثات الإنسانية وما تبقى له بعد تحرر عدن والجنوب من قبضته وصمود مدينة تعز القلب النابض للحراك السياسي والمقاومة… ميناء الحديدة المتاخم للحدود الجنوبية مع السعودية يحيط به مليون نسمة تقريباً يستغلهم الحوثي دروعاً بشرية وملاذاً إنسانياً يمكن الاحتماء به أمام المنظمات الدولية التي رغم احتجاجها ضد الأوضاع الإنسانية في اليمن لا تفهم بشكل جيد التركيبة اليمنية… هناك كثير من الجهل بالسياق اليمني سياسياً واجتماعياً وحتى على مستوى تقاسم الولاءات وما بعد غياب وتهشم الأحزاب السياسية الرئيسية؛ حزب المؤتمر بعد مقتل الرئيس صالح وبقية الأحزاب المهاجرة التي تقدم رؤيتها للمنظمات ليمن آخر غير اليمن على الأرض، وهو ما نراه جلياً في ردات الفعل البائسة على قناة الجزيرة التي تستضيف ما تبقى من فلول الإصلاح المهاجرين لتركيا وبعض المحللين المنضوين تحت راية الميليشيا في بعض الدول الأوروبية خصوصاً ألمانيا، والذين كعادة المنظمات يشكلون رؤيتهم عن اليمن من خلال هذه الجيوب السياسية المؤدلجة.
أكثر من 50 في المائة من المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية تدخل عبر ميناء الحديدة وتعتبر مصدر دخل لاقتصاد الميليشيا عبر الإتاوات التي تفرضها على جميع التجار وحتى المنظمات، كما أن ميناءها هو ملاذ الميليشيا لدخول الأسلحة الإيرانية، لكن المهم هو أن جزءاً من بقاء هذه العصابة في البلاد أنها دشنت اقتصادات الحرب بشكل فعال عبر فرض الرسوم على كل شاحنة أو سفينة ترسو في ميناء، وبحسب تقارير أميركية يتم فرض أكثر من 100 ألف دولار على كل ناقلة ترسو في ميناء الحديدة، عدا سلب المساعدات الإنسانية ونهبها وإعادة بيعها بأسعار باهظة للجمهور اليمني الذي ضاق ذرعاً بهذا الاستنزاف من قبل من باعوا اليمن مرتين؛ مرة بالانقضاض على شرعيته والوقوف مع النظام السابق، ثم لاحقاً حين انقضوا على الحالة السياسية، ولم يقفوا عند ذلك؛ بل سعوا إلى تغيير «هوية» اليمن عبر كل شيء؛ وسائل التعليم والأوقاف والخطاب الإعلامي ورفع شعار المظلومية أمام العالم الغربي، خصوصاً المنظمات من خلال الضحايا الذين استهدفوهم والأطفال الذين تم تجنيدهم والمدنيين الذين يتم الاختباء بينهم وتتبع مخيمات المنظمات الإنسانية والبقاء عندها لإدراكهم أن قوات التحالف لن تضرب تلك المناطق لأنها حرب ردع واستعادة شرعية وليست حرب تدمير، وإلا لما استمرت لكل هذه السنوات الطويلة. تلك هي الحقيقة التي لم تقرأ بشكل جيد عن عاصفة الحزم التي سيحمدها اليمنيون طويلاً مع أول بشائر عودة الأوضاع وبدء تدشين إعادة إعمار اليمن الجديد الذي لطالما ارتهن لعقود إلى فئة قليلة منحازة إلى المصلحة الذاتية أو الحزبية أو الميليشياوية، وإن كان ذلك كله يتم عبر شكلانية ديمقراطية وانتخابية.
الاحتجاجات التي تقودها المنظمات الدولية متفهمة جداً، وهي كانت محل نظر وبحث لدى قوات التحالف طيلة الفترة الماضية، لكن الأوضاع التي آلت إليها الحديدة من استغلال الميليشيا للميناء وتحويله إلى مصدر ارتزاق واقتصاد حربي جعل من العسير جداً بقاء الحال على ما هي عليه وضرورة اتخاذ خطوة جادة تجاه تحرير الميناء والمدينة، الذي كان من المفترض أن يتم قبل عامين من الآن بهدف تحجيم قدرة ميليشيا الحوثي ومنعها من التضخم الاقتصادي الذي يعني شراء ذمم الفقراء والمهمشين وتحويلهم إلى جنود لمعركة قسرية عبر التجنيد والتهديد.
ما هو المهم الآن هو إثبات صحة هذا القرار الاستراتيجي والتاريخي لليمن الجديد من خلال سرعة تنفيذه ثم إعادة تأهيل ميناء الحديدة بالكامل وإعادة تشغيله وإشراك المنظمات الدولية والدول المؤثرة لكبح جماح الحوثيين عن إرسال الصواريخ المضادة وزراعة الألغام، وهو الأمر الذي يعني كف يد الميليشيا عن مزيد من العبث باليمن واليمنيين الذين طالهم الأذى الحوثي أكثر من أي أحد آخر.
هل تشكل الحديدة اختباراً جديداً للحالة اليمنية؟ الحال أنها أحد أكبر تحديات تحجيم الميليشيا الحوثية التي تضخمت بفعل أنها حلت وورثت الفراغ السياسي الكبير الذي خلفه تراجع حزب المؤتمر في المناطق التي لم تشملها سيطرة الشرعية، وعلى عكس المؤتمر الذي كان يجتهد في توزيع الولاءات عبر التحالف القبلي والإغداق على شيوخ القبائل والفساد المستشري استعاض الحوثيون بآلة القمع والتجنيد القسري وفرض الإتاوات، وهو ما يفسر ردة الفعل الكبيرة في صفوف ميليشيا الحوثي تجاه خسارة الحديدة.
تحرير الحديدة خطوة متأخرة جداً، لكن جزءاً من تردد قوات التحالف كان بفعل الضغوط الدولية، رغم أن المطالبة بتحرير الميناء المهم كانت جزءاً من مطالبات الحكومة الشرعية منذ فترة طويلة وعبر القنوات الرسمية، وكانت فكرة طرح مشروع وضع ميناء الحديدة تحت الإشراف الدولي جزءاً من خطة الشرعية والمندوب الدائم لليمن فيها.
المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين وقبلهم النظام السابق هي الأكثر تضرراً ومعاناة على مستوى الوضع الإنساني حتى قبل بدء عاصفة الحزم، والسيطرة على ميناء الحديدة تعني عودة الأمل إلى اليمن بتدفق المعونات الإنسانية والغذائية وإيقاف العوائق التي وضعتها الميليشيا بدءاً من تدفق الأسلحة والذخائر، وصولاً إلى إعاقة الإمدادات الإنسانية وفرض الرسوم عليها، ومن هنا يمكن فهم سر الهلع لدى الحوثي وعصابته من معركة الحديدة الحاسمة، ونتذكر حين أوقفت قوات التحالف عمل الميناء لفترة وجيزة كيف هددت الميليشيا باستهداف الناقلات السعودية وتعطيل حركة مرور السفن في مضيق باب المندب، بل نتذكر تهديدات الصماد في العام الماضي بأن استهداف الحديدة يعني منع الملاحة الدولية في البحر الأحمر.
معركة الحديدة هي ضربة جديدة، ليس لميليشيا الحوثي التي تعيش نهاياتها العسكرية وتحاول أن تستثمر مواتها في بعث خياراتها السياسية والتفاوضية، بل هي ضربة أخرى جديدة لنظام الملالي في طهران الذي كان يستخدم الميناء لمد الحوثيين بالأسلحة والعتاد، ما يعني أن تحرير الحديدة يشكل بوابة جديدة لعبور الأزمة اليمنية وإعادة الأمل للأزمة التي لا أحد يتمنى إطالة أمدها بالقدر ذاته من الإصرار على إكمال المهمة التي أخذت السعودية وحلفاؤها إتمام الهدف الأساسي لها، وهو استعادة اليمن وعمقه العربي والخليجي من عبث الملالي وميليشياتهم.
المصدر: الشرق الأوسط