كاتب سعودي
سألني أستاذ الفلسفة في احدى الجامعات الامريكية: اين كان المسلمون علميا قبل ألف عام وأين صاروا اليوم وأين كانت أوروبا وأين صارت؟ ولم توقف انتشار الإسلام وأصبحت النصرانية أعظم انتشارا وأكثر أتباعا؟ قلت له: تنحرف الأديان عن أصولها فتفسد دين الناس ودنياهم، اذا ما تدخل رجال الدين بين العباد وبين ربهم. وهذا هو جوهر الفرق بين النصرانية والإسلام، الذي به تقدم المسلمون ابتداء وبه تخلفوا انتهاء. فاحتكارية العلاقة بين الله والعباد من خلال رجال الدين متمركزة في الكنيسة عند النصارى. فعندما أبعدت أوروبا الكنيسة عن التدخل في حياتها العامة، انطلقت في عالم الفكر والعلم. ووجد كثير من الناس في النصرانية اليوم خلاصا من تسلط رجل الدين على حياتهم العامة، فأصبحت هي الأكثر انتشارا بين الأديان.
وأما الإسلام فقد قام على أساس مفهوم الحرية ومن اهم عوامل الحرية تجريد التوحيد في علاقة العبد بربه، ولذا لم يكن لرجل الدين بمفهومه اليوم وجود في القرون الإسلامية الأولى. وقد نتج عن هذه الحرية الانسانية، أن تحفزت عقول المسلمين في التفكير في أغوار علوم ملكوت السموات والأرض فتقدمت النهضة العلمية بقفزات ضوئية نسبة إلى ما كان عليه العرب من الجهل والأمية. وقد كان ظهور المتكلمين من المعتزلة والفلاسفة نتيجة طبيعية لانطلاق الفكر في المجتمع الإسلامي. وهو فكر جيد وله فوائد، إلا أنه عقيم المنفعة وشاذ من ناحية الخوض في صفات الله وأسمائه، لذا فقد انتهى وزال، ولولا تدخل السلطة -المتمثلة في المأمون – في فرضه على الناس وردة الفعل المعاكسة، لما حصل ما حصل من منع المنطق والفلسفة والتنفير منها في المجتمعات الإسلامية، والذي أوصل الأمة الإسلامية إلى ما وصلت إليه اليوم من التخلف العلمي والحضاري. وعلى اي حال، فقد ظهرت بعد ذلك ثقافة رجال الدين في المجتمع الإسلامي، واستُحسنت دعوة الالتفاف حولهم ورجوع الناس إليهم في شئون دينهم. ففقد المسلم بذلك حريته الفكرية التي أكرمه بها الإسلام، عن طريق التوحيد الخالص في علاقته التعبدية بربه. وغلب على الأمة فكر التصوف من ناحية ارتباط المريد تعبديا بشيخه، سواء أكان هذا الارتباط والتبعية صراحة او ضمنا بعدم الخروج عن أحكام شيخ او فقيه المنطقة وآرائه، وتنزيهه عن الأخطاء والمعاصي والشهوات التي لا يسلم منها بشر. وبفقدان الحرية الفكرية وذلك بإلزام المسلمين ان يتعبدوا ربهم بفكر فقه شيوخهم، فقد المسلمون موهبة الإبداع والفكر المنطقي، مما تسبب في تخلفهم العلمي والحضاري مما أدى إلى ازدياد تبعيتهم لرجال الدين، مما نفر غير المسلمين من الإسلام مما منع من انتشار الإسلام بالزخم الذي كان عليه في القرون الأولى.
فسألني بروفسور الفلسفة: هل العالم الإسلامي متجه لإبعاد رجل الدين عن الحياة العامة كما حصل مع النصارى؟ فالذي أثبتته الثورات العربية ان المسلمين يرغبون في التزيد والاكثار من هذه التبعية، لا العكس. فقلت: خلاص المسلمين من سيطرة رجل الدين على فكرهم وابعاده عن التدخل في شئون حياتهم، أصعب بمراحل من تخلص أوروبا من الكنيسة. فتبعية المسلمين لرجال الدين هلامية غير معترف بها من المسلمين فهم ينكرونها رغم انها هي المسيطرة على فكرهم والموجهة لثقافاتهم. وهذه التبعية أيضاً غير متمركزة في كيان واضح يمكن الإحاطة به والتعامل معه. والنصارى كانوا يشعرون بظلم وغبن الكنيسة فكان من السهل خلعها، أما المسلمون فلا يشعرون بهذا، بل يعتقدون العكس، ويضعون اللوم على السلطات الحاكمة عبر التاريخ. واستلام رجال الدين أو من يأتمر بأمرهم للسلطات في بلاد الثورات، هو تماما كتسلط بعض رجال الدين على اقتصاديات المسلمين، كلاهما قد اثبت فشلا ذريعا. ولذا فأنا لا أشك بأن المسلمين سيخلعون رجل الدين، ولكن الذي أخشاه ان يتعدى المسلمون النصارى في انتفاضتهم على التبعية لرجال الدين، فلا يكتفون فقط بخلع رجل الدين عن التدخل والتسلط على حياتهم العامة، بل بخلع الدين بالكلية عقائديا وتعبديا ومعاملاتيا.
المصدر: الجزيرة – السعودية