د. حسن حنفي
د. حسن حنفي
حائز على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون ، عمل مستشاراً علمياً في جامعة الأمم المتحدة بطوكيو خلال الفترة من (1985-1987)، نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية ، السكرتير العام للجمعية الفلسفية المصرية.

الحس البيئي… والوعي الجمعي

آراء

نشأ علم الطبيعة عند القدماء من هذه المستويات الستة (الأول: السماء والشمس والقمر والنجوم والكواكب والرياح والسحاب والطير. والثاني: الأرض والجبال والأحجار والتراب والطين والنار والدخان والحديد والذهب والفضة أي علم المعادن. والثالث: الماء والأنهار والينابيع والعيون والبحار. والرابع: الزرع والأشجار والنبات والوديان والمراعي والحدائق والثمرات والأزهار. والخامس: الحيوان والحشرات. والسادس: جسم الإنسان وحاجاته المادية). وفصّلوها في علم الفلك والأنواء والمعادن والنبات والحيوان والنفس وعلاقتها بالبدن وهو ما يسمى علم الإنسان. وهي ليست فقط مستويات في الطبيعة بل هي أيضاً مستويات في القيمة. كل مستوى تالٍ أعلى قيمة من المستوى السابق في تصور تراتبي للطبيعة بين الأعلى والأدنى. فالطبيعة واعية. ومستوياتها الستة، درجات في الوعي حتى نصل إلى الوعي الإنساني الشامل للوعي الطبيعي بمستوياته السابقة. كان المجتمع الإسلامي القديم مجتمعاً منتصراً مؤسساً للعلوم. لذلك برزت علوم الطبيعة في علم التوحيد بعنوان «دقيق الكلام»، وفي علوم الحكمة بعنوان «الطبيعيات»، وفي أصول الفقه بعدة عناوين «المصالح المرسلة»، و«المنافع والمضار». فالطبيعة ليست شيئاً مادياً بل قيمة معنوية.

والسؤال للمعاصرين: لماذا لم يستمر هذا العلم الطبيعي القديم في حياتنا المعاصرة وعند أجيالنا الحديثة؟ لماذا اعتمدنا في علومنا الطبيعية على الوافد الغربي وتركنا الطبيعة لدينا موضوعاً للإهمال، وجعلناها مكاناً لإلقاء مخلفات المنازل والمصانع فلوثنا الأرض والمياه والهواء بل وبدن الإنسان حتى أصيب بالأمراض الناتجة عن تلوث البيئة؟ لماذا تصورنا أن مشاكل البيئة ناتجة من السماء، ثقب الأوزون مثلاً، وليست من نفايات الأرض؟

قد يكون السبب اقتصادياً خالصاً. فالإنسان في حاجة إلى طعام وشراب ومسكن قبل أن يكون في حاجة إلى رعاية للطبيعة. يربي الدجاج في الحدائق العامة. ويلقي بمخلفات المنازل في مياه الصرف الصحي. ويقيم الأكواخ فوق الهضاب وفي الأزقة وعلى ضفاف الأنهار وفي الوديان. فالإنسان أولى بالبقاء من المحافظة على البيئة. وفي المجتمعات الصناعية المتقدمة الغاية الربح وليس الحفاظ على البيئة. فتلقى مخلفات المصانع في الأنهار. وتموت الأسماك. فالصيد متوافر في البحار والمحيطات التي أصابها التلوث هي الأخرى بانهيار آبار النفط في قاع الخلجان.

وقد يكون السبب اجتماعياً. ففي الدول الغنية النظافة فقط في الشوارع الكبرى وفي الأحياء الراقية. أما في الأزقة والحارات حيث يسكن المهاجرون والملونون فالنفايات في كل مكان، لا فرق بين الأطفال والكلاب والقطط، الحية أو الميتة. وقد يرمي قائد السيارة الفارهة بمخلفاته من النافذة في الطريق العام. وقد يبصق في الهواء بدلاً من المنديل. وأسوأ دورات مياه هي التي توجد في المجتمعات الإسلامية على رغم قيم الطهارة وضرورة الوضوء قبل كل صلاة. وقد تستدعي النظم السياسية شركات النظافة الأجنبية لتقوم بتنظيف المطارات لاستقبال المسافرين خاصة الأجانب. وبعض العامة يتبول في الطرقات وعلى الحوائط. ودورات مياه المديرين أنظف من دورات مياه المرؤوسين والموظفين. فالنظافة مرتبطة بالطبقة الراقية، ولكنها في الطبقات الدنيا من الكماليات.

والأهم هو السبب الثقافي أو الفكري، تصور الطبيعة في الوعي الجمعي، وعلاقة الإنسان بالعالم. فقد نشأت قضية تلوث البيئة في الغرب لأنه اعتبر الإنسان سيد الطبيعة، وكأن الطبيعة ليس لها خالق، وأنها في خدمة الإنسان. يفعل بها الإنسان ما يشاء. قطع أشجار غاباتها، واصطياد حيواناتها، وإلقاء مخلفات المصانع في الأنهار ودفن النفايات النووية في صحراء الدول الفقيرة، وكثير من الأمراض المزمنة في الغرب نتيجة لتلوث الهواء والمياه والخضراوات واللحوم. وأصبح العلم قادراً على خلق طبيعة جديدة بديلة عن الطبيعة القديمة، وصنع حياة جديدة بدلا من الحياة القديمة. وهو ما تواجهه منظومة القيم الإسلامية ودورها في تقديم حلول لمشكلات البيئة المعاصرة.

ولا تستطيع القوانين وحدها حماية البيئة إلا نسبياً. فما يدمره الإنسان بيد لا يستطيع بناءه باليد الأخرى. ولا تستطيع الصناعة أن تحيي ما مات في الطبيعة. الأهم هو تغيير تصورات العالم، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وإيجاد نموذج آخر غير «الإنسان سيد الطبيعة» الذي قام عليه العلم الغربي. في اليابان مثلاً الطبيعة رؤية جمالية، ورود وأزهار وألوان وتناسق وانسجام. وكل ياباني مسؤول مسؤولية فردية وتلقائية عن المنطقة التي يسكن فيها من الجهات الأربع، وعن تنظيم مخلفات منزله، كل نوع في الصندوق المخصص له: الجرائد، الزجاجات، البلاستيك، «الكانز». فالنظافة مسؤولية الفرد وليست مسؤولية الدولة إلا في إزاحة الثلوج وإغاثة الكوارث.

ولدينا، الطبيعة مخلوقة، ولها خالق. ومع ذلك لا نعي الخلق، وليس لدينا الوعي بالبيئة اللازم للحفاظ عليها. قلّصنا الدين في الشريعة، وحصرنا الشريعة في السلوك الفردي. وتركنا الدين كتصور كلي عام للإنسان في العالم، وعلاقة الفرد بالآخرين، وبالطبيعة التي يعيش فيها. واستبدلنا بهذا الوعي البيئي الوعي بفناء العالم، وأن الإنسان فيه مجرد عابر سبيل، على راحلة. أتى إلى عالم الفناء كي يغادره إلى عالم البقاء. العمل الصالح مجرد الإحسان والشفقة بالآخرين وليس احترام الطبيعة والعمل فيها. والشريعة الإسلامية ليست فقط فردية بل أيضاً جماعية وطبيعية. تنظم علاقة الفرد بنفسه وبالآخر وبالطبيعة. قلّصناها في الحلال والحرام، وفي الحرام أكثر. وضاع منا الإحساس بالطبيعة وبجمال الطبيعة (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ).

ويكشف فعل «سخّر» عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة. فقد سخر الله الطبيعة لصالح الإنسان. فالله سخر الشمس والقمر لصالح الإنسان، الشمس بالنهار للدفء والطاقة، والقمر بالليل للنور والضياء. وسخر البحر للانتقال عبر السفن وصيد الأسماك للطعام. وسخر النهار للري والشرب. وسخر كل ما في الأرض لمنفعة الإنسان. وسخر الجبال لاستخراج المعادن. وسخر الريح للطائرات. والتسخير ليس هو السيادة في الشعار الغربي «الإنسان سيد الطبيعة». فالتسخير طاعة لله، وسيادة الإنسان للطبيعة وضع الإنسان نفسه مكان الله.

المصدر: جريدة الاتحاد