كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي
تسعى الولايات المتحدة إلى حشد تحالف دولي لمواجهة “داعش”– النسخة الأخطر والأبشع للقاعدة– وهو ما يذكرنا بالتحالف الدولي الذي قاده بوش عقب هجمات “القاعدة” على أميركا فيما سمي بـ “الحرب على الإرهاب”، كانت حرباً شاملة على “القاعدة”: عسكرياً ومالياً وثقافياً، اليوم بعد 13 عاماً من الحرب على الإرهاب، علينا أن نتساءل: لماذا استمر الإرهاب وأصبح أكثر ضراوة ووحشية في ارتكاب جرائم إبادة جماعية للأقليات والطوائف والمكونات التاريخية في العراق؟! وكيف نجح في اجتذاب أكثر من 12 ألف مقاتل أجنبي في صفوفه، منهم بريطانيون وفرنسون وألمان وأميركيون؟!
الحرب على الإرهاب لم تتمكن من الوصول إلى عقلية الإرهابي ونفسيته للتعرف على دوافعه وأهدافه، ولم تقدم إجابة شافية عن: ما الذي يدفع شاباً في عمر الزهور لتفجير نفسه؟! الإنسان لا يترك الحياة ومباهجها إلا من أجل حياة أفضل، ولا يزهد في نساء الدنيا إلا من أجل نساء أجمل في الجنة، ولكن كل ذلك يتم في ظل “عقيدة” متسلطة تزين لصاحبها أن عمله الإجرامي “جهاد” و”استشهاد” العمل الإرهابي أساسه فكر متطرف، يقوم على ادعاء تملك الحقيقة الكاملة ورفض نسبية الحقائق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما يهدف إلى التسلط على الآخرين وإرغامهم بقوة السلاح.
الإرهاب فكر لكنه عدواني، وهو مرض لكنه يصيب النفس ويميت القلب، ثم وهو الأخطر “بيئة اجتماعية حاضنة” بائسة ومحبطة، ولا يثمر العمل الإرهابي ولا ينتشر إلا بتكامل أضلاع “المثلث الإرهابي” وهي:
1- عقلية عدوانية. 2- نفسية كارهة للمجتمع والبشر. 3- بيئة اجتماعية حاضنة، تغذي وترعى وتدعم وتمجد الإرهاب عبر وسائل التواصل والمواقع وترفع شعاراته وأعلامه، وعبر جنوده من أمهات “داعشيات” ودعاة وحملة دكتوراه ينشرون ويبررون للفكر الإرهابي حتى أصبح له “قاعدة شعبية واسعة”.
وعلى ذلك فإن “البيئة الاجتماعية الحاضنة” هي المسؤول الأكبر والأخطر في تقبل الإرهاب ونشره وجذب الشباب إليه، و”الحواضن الاجتماعية” هي الضامن الأكبر لاستمرار الإرهاب رغم الجهود الدولية والإقليمية والمحلية لمحاربته وحصاره وتجفيف منابعه وموارده، ولولا “الحواضن” التي قدمت المأوى والمأكل والعون المادي والمعلوماتي، لما استطاع “داعش” اكتساح المدن والقرى والمحافظات وتهجير الملايين، واقتلاع الطوائف والأقليات التاريخية العراقية من أوطانها بهذه السرعة!
صرخة النائبة الأيزيدية “أهلي يذبحون ونساؤنا تسبى” ما زالت أصداؤها توجع القلوب والضمائر، وتتحمل “الحواضن” المسؤولية الكبرى في الفظائع التي تعرضت لها الطائفتان: الأيزيدية والمسيحية، كونها سهلت وساندت “داعش” وأمدته بالمعلومات اللازمة عن بيوت وأماكن الطائفتين! من يرصد دور “الحواضن” في تفكيك مكونات المجتمع التاريخية يدرك كم أننا مجتمعات هشة، فاقدة للتماسك والمناعة، قصص مرعبة ترويها عائلات أيزيدية ناجية في مخيمات “دهوك” عن خيانات مخزية تعرض لها الأيزيديون من جيرانهم، عشائر عربية أرشدت “داعش” إلى بيوتهم.
إن شعور الأيزيديين بخيانة جيرانهم العرب الذين عاشوا معهم طويلاً ثم انقلبوا عليهم حين جاء “داعش” أشد وطأة على نفوسهم، بل إن بعض أهالي سنجار ساعدوا “داعش” في القبض على الأيزيديين، يقول الباحث العراقي المعروف رشيد خيون: محنة الأيزيديين مع الإرهاب الديني مزدوجة: فهم جماعة غير معترف بهم كأهل كتاب، إضافة إلى الفكرة الخاطئة عنهم بأنهم أعوان يزيد بن معاوية تارة، وعبدة الشيطان تارة أخرى، كما أشاعه عنهم المؤرخ العراقي عبدالرزاق الحسني في كتابه “عبدة الشيطان في العراق” بغير وجه حق.
وأما الفظائع التي تعرض لها المسيحيون في الموصل من إخراجهم ونهب أموالهم وممتلكاتهم، فيقول إبراهيم غرايبة، الكاتب الأردني، إنه يصعب رد ما جرى لهم إلى التشدد الديني فحسب، فماذا يقال عن الوشاية بالمسيحيين ونهب أموالهم وأثاث بيوتهم؟! تقول عائلة مسيحية نازحة: جيراننا دلوا مسلحي “داعش” على منزلنا، لقد تعرضنا في الموصل إلى خيانة، ولن نعود إليها، وفي تقرير من أربيل بعنوان “الجار تحول داعشياً” تصف “ماريا” التي استطاعت النجاة والوصول إلى أربيل، صدمتها من خيانة جيرانها، فتقول: الرحيل من الموصل كان فاجعة، لم أتوقع أن جيران العمر الذين لم يفصلني عنهم طوال سنوات سوى جدار صغير، هم من سيطعنونني في الظهر، وأن ابنهم الذي انضم إلى “داعش” هو من سيطرق بابي ويطلب مني المغادرة ويصفني بالكافرة!
وفي رسالة حزينة بعنوان “ن… وأحلامنا التي فقدناها” لمرح البقاعي، تقول: ونحن نغادر مدينتا الموصل مطرودين للمرة الأولى في التاريخ، وقد أذلنا حاملو راية الإسلام الجديد، لا بد لنا أن نقدم شكرنا لأهلنا فيها، أهلنا الذين كنا نعتقد أنهم سيحموننا، لكننا خذلنا ونحن نغادر، ونترك كل تاريخنا وقبور آبائنا وأجدادنا ورموزنا وآثارنا وكل شيء عزيز علينا، وداعاً نقولها، أخرجنا عتاة “داعش” القتلة من بيوتنا ومحلاتنا ومدينتنا، كانت هذه صرخة انكسار من ساكن موصلي كتبوا على بيته حرف (ن).
وفي مقالة مهمة بعنوان “الحاضنة الاجتماعية للجماعة السلفية” يشير د.باقر النجار– عالم الاجتماع البحريني المعروف– إلى خطورة دور “التضامنيات القبلية والجماعات الاجتماعية المحافظة” كونها تمثل “الحواضن الرئيسية” لهذه الجماعات المتشددة في أفغانستان وباكستان واليمن والعراق وغيرها، والتي تمدها بـ”المعين البشري” وتضمن لها أيضاً الاستمرارية والانتشار العابر للحاجز السياسي والأيديولوجي والجغرافي.
ختاماً إن أي استراتيجية لمواجهة الإرهاب لن تكون فاعلة ما لم يؤخذ في الحسبان، فن التعامل مع “الضلع الإرهابي الثالث” الحاضن الاجتماعي للإرهاب، وذلك بالسعي الجاد إلى إزالة الأسباب والعوامل التي تجعل من المجتمع بيئة حاضنة للتنظيمات المتشددة كما تقول الكاتبة الإماراتية أمل عبدالله الهدابي، ولعل ما حصل في محافظة “تمير” التي تبعد 150كم عن الرياض، يقدم إجابة عن أهمية تفعيل دور الحاضن الاجتماعي في مكافحة الإرهاب، حيث تفاعل الأهالي للإبلاغ عن المحرضين لأبنائهم للالتحاق بـ”داعش”، فكان سبباً رئيسياً في القبض عليهم.
المصدر: الجريدة
http://m.aljarida.com/pages/news_more/2012680880