كاتب سعودي
قد يختلف الناس في كثير من الأمور، لكنهم متفقون في حب الشهرة والمكانة الاجتماعية، ويشير علماء الاجتماع إلى هذه الحقيقة بالقول إن: “من خصائص الطبيعة البشرية أنها شديدة التأثر بما يوحي العرف الاجتماعي إليها من قيم واعتبارات، فالإنسان يود أن يظهر بين الناس بالمظهر الذي يروق في أعينهم، فإذا احترم الناس صفة معينة ترى الفرد يحاول شتى المحاولات للاتصاف بتلك الصفة وللتباهي بها والتنافس عليها”.
وفي المجتمعات المتدينة نجد أن العديد من الناس ينخرط في سلك رجال الدين، فهناك المقام والمنصب والمال الكافي والاحترام والتقدير من المجتمع، ولهذا نجد التكالب من بعض الدعاة والمحتسبين على القنوات الفضائية والمحاضرات في المساجد والمنتديات الاجتماعية مع وجود تضخم هائل في هذه الفئة من الناس.
ولهذا السبب صار الوعظ والاحتساب عند البعض مهنة تدر على أصحابها الأموال، وتمنحهم مركزاً اجتماعياً مرموقاً، وهي لا تحتاج إلى ملكات ومواهب خاصة إلا حفظ بعض الآيات القرآنية والأحاديث ومقدرة على الخطابة ولبس زي معين يمتازون به عن الناس.
وفي السنوات الأخيرة بدأت تنشأ في المجتمع ظاهرة “الدعوة والاحتساب” دون ضوابط ضد كل تغيير أو تطور وتحول يحدث في المجتمع، مثل الاعتراض على عمل المرأة ومشاركتها في المجال السياسي، والاعتراض على معرض الكتاب والنوادي الأدبية والثقافية وعلى برامج الابتعاث وتطوير التعليم العام وتطوير القضاء.
لا لوم على الدعاة والمحتسبين حين يطرحون وجهات نظرهم ويدافعون عنها إزاء قضية أو مسألة معينة، ولكننا نلومهم حين نراهم يخلطون الحابل بالنابل ويتسلطون على الناس باسم الشريعة والدين، وكأنهم يملكون الحقيقة وحدهم، ثم يأخذون بعد ذلك بإعلان الويل والثبور على من يخالفهم الرأي، ويستعملون المقاييس الأخلاقية سلاحاً ضدهم، فلا يكادون يلمحون في أحد قولاً منافياً لآرائهم حتى ينثالوا عليه شتماً وذماً.
لا شك أن رجال الدين هم الأقرب إلى نفوس وقلوب الناس في المجتمع ويدخل تحت هذا الإطار الدعاة والمحتسبون، وللأسف الشديد استغل البعض هذه الميزة وبدؤوا يستغلون عواطف الناس ومشاعرهم في وضع العصا بعجلة التنمية وتعطيل مشاريع النفع العام في سبيل تحقيق مصالح شخصية تغلب عليها صفة الأنانية.
فهم يدركون جيداً أن تصورات بعض الناس عنهم بأن مسألة الكفر والإيمان تخضع لما يقولونه، وأن أدنى انحراف عن آرائهم يفضي بالإنسان إلى نار جهنم كما أن البعض لديه وعي وفهم خاص بالتاريخ والبشرية بحيث لا يرون رؤيتهم هذه متنافية مع الواقع الجديد الذي تفرضه الحداثة في العالم المعاصر، ولو كان هناك تناقض بينهما فالعيب في العالم الجديد لا في أفكارهم.
وباختصار فإن الناس يرون في الدعاة والمحتسبين أنهم أشخاص علماء ومتقون ونزيهون، وما يقولونه هو الحق وغيرهم على باطل، ونتيجة لهذا التصور صار الدعاة وكأنهم ملائكة معصومون من الوقوع في الخطأ.
ولهذا نجد بعض الدعاة والمحتسبين يرتبطون بهذا النحو من التصور لدى الناس، ويدركون أيضاً أن عامة الناس لا تقرأ ولا تتطلع على الآراء الأخرى في الفكر الإسلامي على مدى التاريخ، حيث لا يوجد رأي موحد في المسألة الواحدة بل هناك اختلاف وتنوع كبير في الآراء يصلان إلى حد الحيرة واليأس أحياناً.
فالفقهاء يختلفون في الفتاوى الفقهية وفي تشخيصهم للحكم الشرعي، فكيف ساغ إذن لبعض الدعاة اتهام الآخرين بالانحراف ومجانبة الحق والابتعاد عن شريعة الإسلام؟ لماذا لا تخضع الاختلافات الفكرية في المجتمع لمقولة الصح والخطأ فحسب، بدلاً من تقسيم المجتمع إلى أهل الحق وأهل الباطل؟ ومن ثم التفرقة بين أبناء الوطن الواحد وإذكاء نار الخصومة والتنازع بينهم، الأمر الذي يؤدي إلى إشغال الناس بتوافه الأمور وإبعادهم عن قضاياهم التنموية الكبرى.
لقد استغل بعض الدعاة والمحتسبين للأسف الجمود الفكري الموجود في المجتمع والجزمية في الحكم على الأشياء، والقدسية التي أصبغها الناس عليهم بحيث غطت على أعينهم غشاوة، فلم يلتفتوا إلى الممارسات والسلوكيات الخاطئة والتناقضات التي يقوم بها هؤلاء.
فعلى سبيل المثال، نجد بعض الدعاة من يحرّم الاختلاط في الجامعات ويستند على هذا التحريم من الكتاب والسنة! بينما نجده يقوم بإلقاء المحاضرات على النساء في بلاد أخرى! وهذا ما يجعلنا نتساءل: لماذا اختلف الحكم الشرعي في هذه المسألة؟ هل تتغير الفتوى الفقهية بتغير المجتمع وظروف الواقع؟ فإذا كانت كذلك: فلماذا لا تتغير الآراء والأحكام الشرعية بالتطورات التي تحدث في المجتمع نفسه؟ أم أن الدعاة يحل لهم الدخول على النساء ويحرّم على غيرهم؟ وهذا يعتبر فوقية وتعاليا وتزكية للذات.
ولنأخذ مثالاً آخر: اعترض بعض الدعاة على: “مزاحمة أقسام القانون لكليات الشريعة، والتوسع في الابتعاث لدراسة لقانون، واعتبار مادة القانون من المواد التي يستحق مدرسها (بدل ندرة)”، والسؤال المطروح هنا: ما المانع الشرعي في ذلك؟ وهل الإسلام يحرّم دراسة القانون؟ أليس المجتمع بحاجة إلى محاكم مرورية، ومحاكم تجارية ومالية وعمالية وغيرها، وقوانين جديدة تساير تحولات وتطورات المجتمع؟ أم أن الاعتراض سببه الرئيسي هو الخوف من سحب المميزات المالية والاجتماعية عن التخصصات الدينية؟.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك من الدعاة والمحتسبين من يقوم بالقذف وإساءة السمعة والتشهير والدعاء بالهلاك على الآخرين، ومع ذلك يقولون: “نحن نريد هداية الناس، وتعليمهم الشريعة والرفع من مستوى أخلاقهم وثقافتهم الدينية”! إذن فإن مثل هذه الممارسات التي تستغل التصورات الذهنية للناس لا بد أن تكون مشوبة بالأنانية وإسباغ المشروعية على سلوكياتها وتصرفاتها.
ونحن بحاجة ماسة إلى قبول التعددية في واقع الوعي الديني، وإلا فسوف ينتهي بنا الحال إلى تضليل حقيقة الدين وتبديله إلى مجرد سلعة وبضاعة تباع وتشترى وتستخدم لتحصيل الثروة والسلطة وتحقيق المكانة الاجتماعية.
المصدر: الوطن أون لاين