افتتح مهرجان لندن السينمائي الدولي مساء الاربعاء فعاليات دورته السادسة والخمسين بفيلم التحريك المصور بالاسود والابيض “فرانكينويني” للمخرج الامريكي تيم بيرتن والمنفذ باستخدام الدمى وتقنية الستوب موشن في تنفيذ افلام الرسوم المتحركة.
وعلى السجادة الحمراء في “ليستر سكوير” وسط العاصمة البريطانية لندن، سار المخرج تيم بيرتن وشريكته هيلينا بونام كارتر ونجوم فيلمه مارتن شورت ومارتن لاندو وكاترين اوهيرا، الذين استخدم الفيلم اصواتهم.
ووصف بيرتن اختيار فيلمه لافتتاح المهرجان بأنه شرف كبير له، مضيفا “لقد صنع (الفيلم) هنا، لذا فإنه يكتسب دلالة اضافية خاصة”، في اشارة الى أن الفيلم قد نفذ في ستوديو “ثري ميليس” بلندن.
وبدورها دافعت مديرة المهرجان الجديدة كلير ستيوارت عن هذا الاختيار مؤكدة أن الفيلم قد صنع في لندن بمشاركة نحو 200 من الفنيين البريطانيين الى جانب رؤية بيرتن الاخراجية الذي وصفته بأنه “مخرج صاحب رؤية”، ولذا كان فيلمه “فرانكينويني” بنظرها هو الاختيار النموذجي لحفل الافتتاح.
الى جانب هذا الاحتفاء في حفل الافتتاح أعلن الاربعاء ايضا عن منح بيرتن وكارتر تكريم خاص من معهد الفيلم البريطاني ضمن حفل توزيع الجوائز في 20 من الشهر الجاري.
بالابيض والاسود
في فيلم “فرانكينويني” يعود بيرتن الى حكاية غرائبية سبق ان عالجها في فيلم قصير له بالعنوان نفسه عام 1984، ولكن هذه المرة باستخدام التحريك للدمى والتصوير باسلوب الستوب موشن وبتقنية الابعاد الثلاثية، مع التأكيد على أن الفيلمين بالابيض والاسود.
وحاول بيرتن بجرأة أن يربط بين تلك اللمسة النوستالجية في استعادة الملامح الفنية وجماليات سينما الابيض والاسود والخصائص الاسلوبية لبدايات سينما الرعب في تلك الفترة مع تطور التقنيات الحديثة في انتاج الافلام الثلاثية الابعاد، فضلا عن التطور التقني الكبير الذي شهدته طرق تنفيذ افلام التحريك.
إنه فيلم محاكاة بامتياز لجماليات سينما الابيض للاسود، وكذلك للخصائص الاسلوبية لافلام الرعب في تلك الفترة، ما دام النموذج الاساسي الذي ينطلق منه الفيلم وحكايته هو فيلم “فرانكشتاين” للمخرج جيمس ويل عام 1931، المأخوذ عن رواية ماري شيلي الشهيرة بالاسم نفسه، فهو في النهاية فيلم يستمد مادته من تاريخ السينما ومن تطور هذا النوع من الافلام.
ولعل المقارنة بين فيلمي بيرتن نفسه القديم والجديد، تكشف عن مدى الحرية الكبيرة التي اعطاها اياه تخلصه من قالب الفيلم التقليدي واستخدام الممثلين الحقيقيين، عندما استخدم قالب فيلم التحريك والدمى، كما في تلك المشاهد الاضافية التي لم يتمكن من تنفيذها بشكل واسع في فيلمه الأول عندما تتحول فكرة اعادة احياء الكائن الى واقع كابوسي يعم كل المدينة التي تنتج (مسوخها المختلفة).
على خطى “الفنان”
الى جانب ذلك أراد بيرتن أن يؤكد على ريادته لاستخدام الابيض والاسود في افلام سابقة، وان لم تلق النجاح الجماهيري المطلوب. إذ أن النجاح الكبير لفيلم المخرج الفرنسي ميشيل هازانافيسوس “الفنان” العام الماضي (والمنفذ بالابيض والاسود وبمحاكاة لاسلوب السينما الصامته وحصوله على من الجوائز الدولية الكبرى كما هي الحال مع البافتا البريطانية اوالاوسكار الامريكية التي حصد الفيلم خمس جوائز منها من بينها جائزة افضل فيلم)، حفز بيرتن على العودة الى إسلوب جربه سابقا في عدد من افلامه وكأنه يريد وعلى تأكيد انه له قصب السبق في ذلك.
فإلى جانب فيلمه القصير “فرانكينويني” عام 1984 والذي اعاد اخراجه هذه المرة، سبق لبيرتن أن اخرج فيلما استخدم فيه تقنية الابيض والاسود عام 1994 وهو فيلم “أد وود” الذي يحكي قصة حياة مخرج افلام الرعب الراحل إد وود ومثله جوني ديب ولم يلق الفيلم في حينها نجاحا جماهيريا وإن كان قد نال استحسان النقاد.
مثل هذا التركيز على جوهر محاكاة النوع الفني (الجينره) وهي افلام الرعب هنا، واستخدام تقنيات التصوير بالابيض والاسود، لا تعطي لبيرتن ريادة مثل هذا النوع من الافلام، وان كانت تحجز له مكانا مميزا في مثل هذه المحاولات، إذ سبق للمخرج ميل بروكس ان استخدم اسلوب محاكاة مشابة باستخدام الابيض والاسود لاسلوب افلام الرعب في فيلمه “فرانكشتاين الصغير” عام 1974، وهو محاكاة ساخرة لفيلم فرانكشتاين الذي اخرجه المخرج جيمس ويل عن رواية ماري شيللي الشهيرة بالعنوان نفسه .
اما بشأن استخدام تقنيات التصوير بالابيض والاسود فقد استخدمها مخرجون عديدون، منهم على سبيل المثال لا الحصر فيكتور فيلمنغ في مشاهد التذكر (الفلاش باك) في الفيلم الشهير “ذهب مع الريح”، او وودي ألن في “منهاتن” وسكورسيزي في “الثور الهائج” وسبيلبرغ في “قائمة تشاندلر” وغيرهم.
عوالم الظلمة والنور
المخرج تيم بيرتن وممثلو فيلمه مارتن شورت ومارتن لاندو وكاترين اوهيرا نجوم حفل الافتتاح
ويعود بيرتن في هذا الفيلم ايضا الى فيلم سابق له نفذه بتقنية افلام التحريك “ستوب موشن” عام 2005 وهو فيلم “العروس الجثة” الذي اعتمد في حكايته على حكاية فلكلورية يهودية وادى اصوات شخصياته جوني ديب وهيلينا بونام كارتر التي شاركته في اعداد الفيلم وشخصياته، وبدا التشابه الشكلي واضحا مع كثير من شخصيات الفيلم الجديد، وكان هذا الفيلم هو ثالث فيلم ينفذه بطريقة “ستوب موشن” بعد فيلمي “كابوس قبل عيد الميلاد”، و”جيمس والخوخة الهائلة”.
في “فرانكينويني” اعطى استخدام الابيض والاسود لبيرتن القدرة على تأكيد اسلوبه الخاص باستثمار التناقض الحاد بين الضوء والظلمة ، ومناطق التفاعل والتداخل بينهما، وشخصياته الضائعة بينهما، وما يستدعيه ذلك من استعادة اجواء الحكايات الخرافية والعوالم الغرائبية التي يولع بيرتن بتقديمها.
واذا بدا بيرتن مقتصدا باللون في العودة الى الابيض والاسود الا انه لم يتخلى عن اسلوبه المزخرف الذي عرف فيه، وقدمه وسط عوالم لونية وشكلية باذخة يتذكرها مثلا من شاهد نسخته من “أليس في بلاد العجائب” عام 2010 او “تشارلي ومصنع الشوكلاتة” عام 2005 و”الرجل الوطواط” “وعودة الرجل الوطواط” و”كوكب القردة” وغيرها.
وتقدم حكاية فرانكشتاين مصدر الهام بيرتن الرئيس في فيلمه هذا، إذ ينقلها الى انتاج مسوخ من الحيوانات، فالصبي فكتور الذي يفقد كلبه سباركي في حادث سيارة اثناء مطاردته لكرة بيسبول، يستلهم فكرة التجربة التي يجريها التلاميذ في المختبرات لمتابعة تأثير التيار الكهربائي على الضفادع الميتة، فينجح في تصميم تجربة لاعادة كلبه سباركي الى الحياة باستخدام ضوء البرق.
ويكتشف زميله في المدرسة ادغار الأحدب سره ويبتزه لتعليمه اسرار تجربته، فيشيع ادغار السر بين زملائه وفي البلدة، ليقوم كل منهم بتجربته بطريقته الخاصة ولتمتلئ المدينة بمسوخ الحيوانات التي تعيث بها فسادا.
وعلى الرغم من تمكنهم من هزيمة هذه المسوخ في النهاية الا ان اهالي البلدة يلومون فيكتور بأنه هو السبب وراء انتشار مثل هذه المسوخ فيها، وينجح الكلب سباركي في النهاية في انقاذ فيكتور وصديقته اليسا بعد ان تحاصرهما النيران في طاحونة هوائية في البلدة. هذه العملية تعيد الاعتبار لسباركي في البلدة التي يقرر سكانها استخدام بطاريات سياراتهم لاعادة تحريكه بعد أن فقد قوة الحياة فيه.
يستثمر بيرتن هذه الحكاية لتقديم عوالمه الغرائبية وشخصياته العالقة ابدا بين صراع قوى الخير والشر او النور والظلام، وهي المادة الأثيرة للحكايات الخرافية والقصص الغرائبية (الفنتازية).
ادارة جديدة
يعكس هذا الاختيار، الى جانب التغييرات التي اعلنت في برامج المهرجان الاخرى نهج الادارة الجديدة التي تولت ادارته بعد استقالة مديرته الفنية السابقة ساندرا هيبرون التي ادارت المهرجان لأكثر من ثمانية اعوام.
اذ تسعى الادارة الجديدة برئاسة الاسترالية كلير ستيورات الى دفع المهرجان الى واجهة المناخ التنافسي للمهرجانات السينمائية الاخرى كمهرجاني كان والبندقية، بعد ان ظل لزمن طويل مهرجانا غير تنافسي سمته الاساسية تقديم طيف سينمائي واسع من السينما العالمية (يتناسب مع تلك الطبيعة الكوزموبوليتيانية لمدينة لندن والتعددية الثقافية التي تتسم بها) فضلا عن جمع ابرز ما خلال العام من افلام سينمائية حتى حقت تسميته بـ “مهرجان المهرجانات”.
من هنا حرصت الادارة الجديدة على التركيز على مسابقات المهرجان الثلاث ودفعها الى الواجهة بعد ان ظلت نشاطا شبه هامشي في المهرجان الذي يفخر بتنوعه وتقديمه اختيارات واسعة من ابرز الانتاجات السينمائية من مختلف البلدان والاتجاهات بغض النظر، فتقليد منح الجوائز في المهرجان وتقديمها ضمن حفل خاص عشية ختام المهرجان تقليد جديد ظهر لأول مرة منذ عام 2009 (كانت هناك بعض الجوائز التي تقدمها بعض الجهات والمؤسسات على هامش المهرجان في سنوات قبلها).
كما غيرت تقسيمات عروض المهرجان الاساسية لتضع تسميات عامة تتعلق بموضوعات الافلام بدلا من بلدانها واتجاهاتها في الدورات السابقة، من هنا حملت هذه التظاهرات عنوانات امثال “حب”، “جرأة” ، “جدل” “ضحك” “تشويق” صنفت تحتها معظم افلام المهرجان الـ 225 والتي سيواصل المهرجان عرضها على مدى 12 يوما.
جوائز
وتتوزع جوائز المهرجان في اربع فئات تنافسية في المقدمة منها المسابقة الرسمية للمهرجان التي يتنافس فيها 12 فيلما من ابرزها فيلم “صدأ وعظام” للمخرج الفرنسي جاك أوديار والحاصل على الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان كان عن فيلمه “نبي” عام 2009، والفيلم المعد عن رواية الكاتب سلمان رشدي اطفال منتصف الليل للمخرجة الهندية ديبا مهتا ، وقد كتب السيناريو للفيلم الروائي نفسه. وفيلم ” لا” للمخرج التشيلي بابلو لارين الذي سبق أن فاز بجائزة “نصف شهر المخرجين في مهرجان كان الدولي، والفيلم هو الجزء الاخير من ثلاثييته السينمائية التي تدور احداثها ابان الحكم الديكتاتوري للجنرال أوغستينو بينوشية.
الى جانب افلام “سالي وجينجر” للمخرجة البريطانية سالي بوتر (مخرجة فيلم اورنالدو عن عمل لفيرجينيا وولف). والفيلم المكسيكي “بعد لوسيا” للمخرج ميخيل فرانكو، وفيلم “ايند اوف ووتش” أو “نهاية نوبة العمل” للمخرج وكاتب السيناريو الامريكي ديفيد ايير، وفيلم “في البيت” للمخرج الفرنسي فرانسوا أوزو (من افلامه بوتشي مع كاترين دينوف وجيرار ديبارديو) وفيلم كاتب السيناريو والمخرج مايكل ماغدونا “سبعة مرضى نفسيين”. وفيلم المخرجة الاسرائيلية راما بورشتاين “املأ الفراغ”.
الى جانب المسابقة الرسمية يتنافس نحو 12 فيلما وثائقيا على الجائزة التي تحمل اسم المخرج التسجيلي البريطاني جريرسون، ويتنافس 12 فيلما اخر تمثل تجارب الاولى لمخرجيها ومن بينها فيلم المخرجة السعودية هيفاء المنصور على جائزة سوذرلاند لافضل عمل اول.
فضلا عن جائزة خاصة لافضل فنان بريطاني واعد في مجلات التمثيل والاخراج والكتابة للسينما والانتاج، وسنتوقف تفصيليا في مقال لاحق عند هذه الجوائز والمشاركة العربية في المهرجان.