محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
ينقل عن الرئيس التاريخي الأسبق لفرنسا الجنرال ديغول قوله: إذا أردت أن تعرف ما يجري حولك، فانظر إلى الخريطة، فالحركة فيها وحولها تحدد لك مسار الأحداث! وليس أفضل من تلك النصيحة لفهم ما يحدث في الشرق الأوسط اليوم، فالناظر في خريطة الشرق الأوسط يرى أن هناك احتداما واضحا يستخدم فيه السلاح والدبلوماسية معا بين عدد من القوى ترغب أن تحصل على قطعة من «كعكة» الشرق الأوسط الشهية، تدفع هذه القوى في الأساس مصالحها القومية، وتتدثر بعدد من السواتر الآيديولوجية أو حتى الأخلاقية. على رأس القوى قوتان لهما ماض إمبراطوري يرغبان في إحيائه على حساب شعوب ومصالح العرب في الشرق العربي. قوة صغيرة نسبيا وقوة كبيرة نسبيا، ولكن كلا منهما «يخطط وينفذ» ولا يرغب فقط، أن يكون له «هيمنة» على الشرق العربي وموارده وإنسانه، على خلفية قراءة استراتيجية تفترض أن هذا العالم العربي ضعيف المناعة ومفكك ولا يقوى على المقاومة.
القوة الأولى لا ريب هي إيران، فليس بخاف أنها موجودة ومؤثرة في العراق ولبنان وسوريا، ولها أياد في أكثر من مكان في جيب بعض الدول العربية الأخرى. هي في الواقع تعبث بالجسم العربي تقريبا كيفما تشاء، إما بسبب قبول ورضا بعض العرب في الخضوع لتبعيتها، أو بسبب تجاهل هذا العبث حتى لا يثار الأسد الإيراني أكثر مما هو ثائر! يكفي أن نتذكر تصريحات الجنرال يحيى رحيمي، القائد السابق للحرس الثوري، الذي تحدث عن الإمبراطورية التي تطل على شواطئ البحر المتوسط.
القوة الثانية هي روسيا فهي «تخطط وتنفذ» لا ترغب فقط، في أن تضع أرجلها في المياه الدافئة، وقد فعلت ذلك بنجاح نسبي في البحر الأسود، عندما استولت وأمام العالم على شبه جزيرة القرم، وتحتفظ بموقعها على الجانب الشرقي من المتوسط، على الساحل السوري، وتدافع عن ذلك بصلف حتى في مجلس الأمن، كما تشتهي أن تستفيد من خطايا العرب في التمدد إلى الساحل العربي في شمال أفريقيا من البحر الأبيض، ذلك كله ليس سرا ولكنه مشاهد في العلن ويتصف بنجاحات كل يوم. تربك روسيا الغرب أيضا في أوكرانيا، أيقونة الجائزة الغربية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
على الجانب الآخر من المعادلة نجد الطرف العربي، وهو ينقسم إلى ما يمكن أن يسمى «العربية الرسمية» الأكبر والأكثر، أي مجموعة الدول العربية المستهدفة وردود فعلها الرسمية، والقسم الثاني ما يمكن تسميته «بالعرب الذئاب» وهم تلك المجموعات والقوى غير المنظمة، إلا في الحدود الدنيا، والتي أصبحت تسمى عالميا في وسائط الإعلام «الإرهابيين» وتتشكل قواهم من «إرهاب ناعم وآخر خشن» يبحثون عن طرائدهم حاملين طفيلياتهم الفكرية. الاثنان، العربية الرسمية والعرب الذئاب، يشتركون في رؤية ناقصة أو قاصرة عن قراءة الخارطة.
العربية الرسمية إما غائبة عن قراءة الاستراتيجية البعيدة للاندفاع الصاخب للقوتين، الصغرى والكبرى، في خاصرتهم، مشغولون بأنفسهم، أو غير قادرين على توحيد صفوفهم لمواجهة ذلك الاندفاع، مختلفون على التفاصيل الصغيرة.
ألمح في الخلفية أن ثمة مشروعا من قبل «العربية الرسمية» لمواجهة ذلك الاندفاع الصاخب من القوتين، ربما يتمثل في التفكير الاستراتيجي الذي ظهر من مجموعة مقابلات المرشح المصري لرئاسة الجمهورية عبد الفتاح السيسي.. أرى أن هناك محاولات لوقف الاندفاع بإعادة رص صفوف العرب القابلين بالتعاون، من أجل تحقيق هدفين استراتيجيين؛ الأول سد الباب أمام اندفاع «الرأسين»، والثاني تصفية قطعان الذئاب إلى أي مذهب استندوا، أو خلف أي ساتر قبعوا.
الإرهاصات الأولى لذلك التعاون، الذي قد يؤدي إلى استراتيجية متكاملة، ظهرت تباشيره في مكانين؛ الأول التمرين العسكري المشترك «المصري الإماراتي» وبعده التمرين المشترك «المصري البحريني» الذي لخص التوجه إليه عبد الفتاح السيسي في مقابلة الـ«سكاي نيوز» أخيرا بأنه «مسافة السكة»! واضح أن هذا التفكير الجنيني ربما يتبلور فيما بعد الانتخابات المصرية المقبلة، وفي حال نجاح السيسي ليس فقط نجاحا رقميا، ولكن بنسب عالية من أصوات المصريين، تتعزز الاستراتيجية لدعم التفكير الجديد.
الموقف العربي الرسمي، أو على الأقل القوى المؤثرة فيه والمستهدفة من اندفاع الرأسين (الإيراني، الروسي)، يحتاج إلى أن يقرأ الخارطة بدقة من أجل بذل الجهود ورص الصفوف وحشد الإمكانيات، والظهور للعالم بأجندة استراتيجية موحدة وقابلة للتطبيق. المشكلة أن هذا المشروع العربي المأمول يواجه بحركة التفافية من «الذئاب العرب»، والقصد هنا ما يسمى إعلاميا وعالميا بـ«قوى الإرهاب» الذي نال من الجسم العربي حتى كاد يوهنه، فلم يعد فيه مكان إلا معطوبا بآثار نهش «الذئاب»، هذه الذئاب هي مدفع منفلت، يضرب بعشوائية، ومستعدة للقتل والتخريب، حتى الذئاب الحيوانية لا تقتل إلا عندما تجوع، الذئاب العربية تقتل حتى وهي شبعى وفي عقر دار أهلها. عطالة التفكير لدى هذه المجموعات تسهل، من حيث تدري أو لا تدري، اندفاع المشروع التوسعي ذي الرأسين، فهي عاجزة أصلا عن قراءة الخرائط الاستراتيجية.
من نافلة القول أن القوى التي كانت تسمى عظمى، سواء أوروبا الموحدة أو الولايات المتحدة، تقف عاجزة أمام شهية القوتين (الصغرى والكبرى) المفتوحة.. القوى العظمى في تراجع مستمر.
دعك من الموضوع العربي في سوريا، خذ أيقونة تحرير الشعوب الأوروبية المضطهدة أيام الاتحاد السوفياتي (على رأسها أوكرانيا) هذه الدولة تقضم اليوم شيئا فشيئا من الدب الروسي، وما إن يهضم جزءا منها حتى يلتفت إلى الجزء الآخر، أمام عجز تاريخي للقوى التي لا تجد غير التهديد والوعيد، والخارطة الأوروبية تتغير. هجوم الذئاب لم يعد مقصورا على ساحات الحرب، بل أصبح في شوارع المدن، فمصر تعاني منه، ويعطل من حركتها تجاه بناء منظومة استراتيجية ثابتة لمواجهة اندفاع الرأسين، كما تظهر بثور أعمال الذئاب على وجه العديد من العواصم والمدن العربية، حتى التي كانت آمنة إلى فترة قريبة! تحت أقدام الذئاب حشد من التفكير الأعمى والبصيرة القاتمة، تجعل جزءا من الجمهور العربي قابلا بأفعالها، وجزءا من الشباب راغبا في الانضمام إليها، ليس من الفضاء العربي ولكن أيضا من دول العالم، فيما يعرف الآن في الأدبيات خطأ بـ«الإرهاب المسلم»! الذي يشيع طائفية بغيضة تمهد لتغير الخارطة، كما حدث في السودان، وقد تتكرر في أماكن أخرى.
الوقوف أمام اندفاع الرأسين في خاصرتنا لعربية لا يحتاج فقط إلى القوة، ولكن قبلها يحتاج إلى العقل، والعلم بالشيء، ثم إلى خطة واضحة إعلامية وتربوية متكاملة وقابلة للتنفيذ تحشد كل الإمكانيات للحفاظ على أمن عربي يجنب العرب الاستباحة المفروضة عليهم.
آخر الكلام:
مبكرا في هذا المكان وفي 18 ديسمبر (كانون الأول) 2012 كتبت «سوف يتعب الأخضر الإبراهيمي في جولاته، وسوف تشرف مفرداته الدبلوماسية على الجفاف، بعد حين لن يجد الكلمات التي تعبر عما يشاهد أو يسمع» وبعد سنتين طويلتين أزهقت فيهما أرواح بريئة… قدم الإبراهيمي استقالته!!
المصدر: الشرق الأوسط