تصريح خاص وحصري للترجمة والنشر في “الهتلان بوست”
ترجمة: الهتلان بوست
منزل منصور حبشي، في أنقاض “دار الباي” المتهالك
حمام الأنف، تونس – الساعة 8 صباحاً. مازالت أشعة الشمس الذهبية تسطع بضوئها الباهت في الأفق، وفي الخلف البحر وتونس العاصمة. مدينة “حمام الأنف” استيقظت للتو، إلا أن منصور حبشي، البالغ من العمر 32 عاماً، قد استيقظ منذ ثلاث ساعات، ويتبادل أطراف الحديث مع نحو 300 شخص آخرين في “دار الباي”، المتهالك وهو يرتدي سروال البضائع وزوج من الصنادل. كان هذا البناء الضخم القصر الصيفي للبكوات العثمانيين، الذين حكموا تونس حتى استيلاء الفرنسيين عليها أواخر القرن التاسع عشر. وقبيل الانتفاضة التي أطاحت بالرئيس التونسي السابق، كان من المقرر أن يتم تحويل القصر إلى متحف. ولكن ليس الآن.
منصور ومساعده صبري، يسرجان الحصان قبل بدء يوم العمل
يتوجهان لبدء يومهما للتفتيش وسط أكوام القمامة
وبينما يتحدث مع واضعي اليد الآخرين، يملأ منصور إناءً واسعاً مسطحاً بالعلف، ويلقي بوجبة الإفطار بجوار حصانه الرمادي النحيف، الذي يلعقها بهمة وبنشاط. و تقف زوجته “هنده المنصور” البالغة من العمر 21 عاماً، متكئة على المدخل الرئيس لـ”الدار”، تنظر إلى ما يجري. يخرج منصور علبة سجائر من جيب عربته ويقفز فوق السياح المنخفض الذي يفصل بين موقف السيارات الخاص بـ “الدار”، ليجلس على كرسي بلاستيكي تحت مظلة في المقهى المجاور، يرشف الاسبرسو، بينما يتحدث عن حياته المبكرة، وكيف أنه نشأ يتيم الأب، وعن أمه الشابة التي ولدته عندما كان عمرها 19 عاماً فقط.
ترك منصور المدرسة بعد الصف الثالث الابتدائي، وعمل في مصانع الحديد عندما كان شاباً ليغطي تكاليف المعيشة.
في عام 2011، اضطر منصور إلى ترك الشقة الصغيرة التي استأجرها في “حمام الأنف” بسبب الارتفاع الجنوني في الأسعار في أعقاب الانتفاصة التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن على. وحيث لم يعد قادراً على دفع الإيجار، انتقل منصور، مع العديد من التونسيين الذين طردتهم الشرطة من مدينة لخيام الإيواء المؤقتة على أحد الجبال القريبة، للسكن في “دار الباي”.
منصور منتظراً العامل ليحضر له الزجاحات التي جمعها.
هناك أشياء ذات قيمة إن عرف أين تبحث عنها
منصور واحد من آلاف التونسيين من الطبقات الدنيا، ممن يعانون البطالة أو الفقر المدقع. بعضهم يدبر أموره بطرق غير رسمية، والكثير مهمشون سياسياً بينما تشهد تونس العاصمة تحول البلاد نحو الديمقراطية. وبينما ليس لديه الكثير ليخسره، وربما الكثير ليربحه، ومع نسيان النظام الذي وضعه في هذا الموقف له، قد تكون هذه هي نقطة الاشتعال المحتملة لمزيد من الاضطرابات، إن لم يوفر الانتقال السياسي فرصاً لحياة أفضل لهؤلاء الذين يعيشون في القاع.
تونس كانت هي المكان الذي شهد بداية الربيع العربي مع الثورة التي أطاحت بإبن علي في بداية عام 2011. ولكن بالنسبة لكثيرين من أمثال منصور، فإن الثورة لم تف بعد بالوعود التي قطعتها في بداياتها ، وخذلت هؤلاء الذين آمنوا بها.
الذهب الحقيقي هو زجاجات المياه المهملة التي يتم جمعها
يتراجع منصور قائلاً: “الثورة كانت جيدة. هل تعرف ما الجيد بشأنها. قبلاً، لم يكن باستطاعتنا الحديث عن النظام. الآن، يمكننا أن نقول ما نشاء”. ويضيف بابتسامة: “تزوجت في أعقاب الثورة! يوم 26 يناير 2011. لمن أكن أستطيع ذلك قبل الثورة لأنني كنت سأحتاج إلى وساطة في البلدية حتى أحصل على أوراق الزواج”.
الحصول على مكافأة بعد يوم عمل طويل
الحصان إلى النبع
بعد أن احتسى قهوته، دس منصور بضع عملات معدنية في يد النادل عندما مر بطاولته، ثم قفز عائداً فوق السور الصغير إلى ساحة انتظار السيارات الترابية، ليربط حصانه إلى عربته التي تم تجميع أجزائها من النفايات، بعدد كبير من الأحزمة، ثم يقفز “صبري متلوف”، مساعد منصور البالغ من العمر 13 عاماً، على المقعد، ويذهبان ليجوبا الطرق السريعة والشوارع الجانبية لحمام الأنف والمناطق المجاورة في مدينة الزهراء.
يصعد منصور الدرج ليلقي التحية على عائلته
يمر صبري بعربته بين الأبراج السكنية البيضاء الفقيرة، ويقفز من عربته ليخطف كيساً بلاستيكياً محشواً بزجاجات المياه الفارغة معلقاً على جانب حاوية للقمامة. يصيح منصور “هز لخبز معك زيدا” طالباً من صبري أن يحضر معه كيساً مربوطاً بشكل أنيق يحتوي على بقايا خبز جاف، كان معلقاً كذلك على جانب حاوية القمامة، قبل أن يسرع عائداً لموقعه فوق العربة التي تصدر صريراً وهي تسير في الشارع. ويحاول منصور، عن طريق النقود التي يكسبها من عمله المتواضع في جمع الزجاجات من الشوارع، وبقايا الخبز التي يحصل عليها مثل هذه، أن يوفر الطعام لهنده وبناته الثلاث الصغيرات.
يقول منصور، بينما حصانه يخب في شوارع الزهراء الضيقة: “لم أتخط الصف الثالث في الدراسة، هل تفهمني؟ لقد سئمت، وبدون والدي بجانبي ليعتني بي، لمن أتمكن من استكمال دراستي. لا أستطيع القراءة بشكل جيد. ولا يمكنني العمل في مكتب حكومي أو أي مكتب آخر. يمكنني العمل في المصانع أو في الأعمال اليدوية. هذا يمكن أن يساعدني”. تستقر العربة وتسكن ضوضائها، ويمسح منصور الشوارع الخالية بعينيه بحثاً عن مكبات للقمامة. الصوت الوحيد المسموع هو حوافر الحصان، وصوت صبري وهو ينقر بلسانه.
عائلة منصور – السبب في استمراره في كده اليومي
يسحب منصور “اللجام”، لتبطئ العربة، ويقفز صبري ليتفقد أكوام النفايات. وينجح في أن يمسك بمجموعة من الزجاجات البلاستيكية في يديه، يرميها في مؤخرة عربته قبل أن يتسلق عائداً ليركب على المقعد مع منصور.
يتساءل منصور بصوت مرتفع: “ما العيب في الثورة؟ إنني أحاول تنشئة أسرة، ولازلت غير قادر على الحصول على وظيفة مستقرة. الأسعار ارتفعت. ليس بمقدوري شراء الحليب للأطفال”.
طفلتا منصور سعيدتان لرؤيته
إذاً، هل سيصوت منصور في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة المقرر لها أن تختتم الفترة الانتقالية في تونس والتي بدأت منذ أكثر من ثلاث سنوات؟ “لم أسجل [في الانتخابات]. هل تفهمني. أنا أعمل في الصباح والمساء. أحاول أن اهتم ببناتي الثلاث. عندما أعود للبيت، أكون منهكاً. إضافة إلى ذلك، فأنا لا أتبع أي حزب سياسي. كل شخص لديه حزب سياسي هذه الأيام. فلماذا سأسجل نفسي؟”
يسحب منصور “اللجام”، ليسرع حصانه الرمادي ويتخذ الطريق السريع عائداً إلى دار الباي. تمر السيارات مسرعة بجوار عربته، بينما يشق رجل على دراجة نارية طريقه وسط حركة المرور المزدحمة قبل إحدى الإشارات الضوئية، حاملاً خلفه كيساً منتفخاً مليئاً بالمواد القابلة لإعادة التدوير. “هل تراه؟” يتساءل منصور. “إنه يعمل في البلدية. يدفعون له ليجوب شوارع [حمام الأنف] ويجمع البلاستيك”. بإمكاني الاستفادة من وظيفة كهذه”. ويضيف بنبرة حزينة إنه لكي يحصل على وظيفة مثل هذه، فإنه بحاجة إلى أن يعرف الشخص المناسب، أو إلى الكثير من الحظ.
الحياة اليومية
عند عودته لموقف السيارات الترابي في “الدار”، يشد منصور “لجام” عربته، ثم ينزل من على المقعد، ويفك الحصان من العربة، تاركاً الزجاجات في أكياس الخيش على ظهر العربة حتى يستكمل الجولة الثانية في المساء. يصعد منصور الدرج المظلم للدار إلى الطابق الثاني حيث يقيم، متحسساً طريقه في الردهات ذات الإضاءة الخافتة، ماراً بإطارات النوافذ الفارغة حيث تم كسر الزجاج أو نزعه من مكانه. ولكنه يتوقف حتى تنتهي هنده من تنظيف المنزل استعداداً لوصوله. يجلس منصور على مقعد في غرفة منخفضة السقف مليئة بكل شئ من قوائم سرير مفككة، إلى مراوح تم تفكيكها بعناية. وتنتشر حبات من السكر على الأرض وينتشر معها النمل في كل مكان. يقول منصور أن الغرفة تستخدم كورشة من نوع ما، حيث يقوم “مستوطنو الدار” بتفكيك الأشياء التي يجدونها ليبيعونها بالقطعة.
ولكن للأسف، لا يوجد حليب يكفي لتعبئة زجاجة الرضيع
تتعثر ابنتا منصور “آية”، و”ريتاش” خارجتين من الردهة المضاءة بالفلورسنت والتي تربط الورشة ببيتهم. وتمسك الفتاتان، بشعرهما المغسول والمربوط بعناية، رجلي منصور بينما يتحدث عن جمع الزجاجات، والرجل الوسيط الذي يبيع له. ومن نوافذ الورشة، يأتي صوت أقدام تتحرك في الساحة بالأسفل حيث يقوم واضعو اليد الآخرين بنشر الغسيل لكي يجف. يتحرك منصور خطوات قليلة في الردهة المظلمة الرطبة، ويزيح ستارة ليدخل إلى بيته المكون من غرفة واحدة، يدخل إليها الضوء عبر مدخل من دون باب. تجلس هنده، بشعرها المصبوع باللون الأشقر والمربوط على شكل كعكة، بهدوء على الأريكة وراحة يدها على خدها. تنظر آية وريتاش إلى أبيهما ببهجة وتبتسمان له فيبادلهما الابتسام.
يجلس منصور وزوجته على الأريكة الغائرة، وتتحدث هنده عن حياتها اليومية في “الدار”. كانت تعيش مع عائلتها في منطقة الزهراء المجاورة، وعملت لثلاث سنوات كعاملة نظافة في المدرسة الثانوية المجاورة للدار، ولكن مع وجود الأطفال، لم تستطع الاحتفاظ بوظيفتها، واضطرت لتقديم استقالتها. وفيما يتعلق بالانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، والنقاشات الدائرة حول مستقبل تونس، تكتسي تعبيراتها بنبرة متالمة، فالإصلاح أبعد ما يكون عن ذهنها.
تحكي هنده، وهي تشير إلى الإجراءات الصارمة التي يتهم التونسيون الفقراء بها الشرطة أنها تتخذها ضدهم، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والعنف في مراكز الاحتجاز. “ذهبت مؤخراً إلى البلدية للسؤال عن البحث عن عمل، فأحضروني مباشرة إلى مركز الشرطة ، وكأنني ارتكبت جرماً. لا أدري لماذا”. وتضيف: “ما زال رجال الشرطة يوقفوننا، ويضربوننا. يفعلوا مايشاءون بنا”.
في نهاية المطاف، وعند نقطة معينة، سيصل منصور ومثله الآلاف في تونس ومنطقة المغرب العربي إلى نقطة الانهيار. وحينئذ، سيكونون على استعداد لتغيير العالم – بأي تكلفة.
وفيما يتعلق بالانتخابات، لم تقل شيئاً عن التصويت، ولكنها دخلت إلى الموضوع مباشرة: “سمعت في قناة الجزيرة أنه بعد الانتخابات سيطردوننا من دار الباي. فقد اشترته شركة فرنسية أو ألمانية ستقوم بتجديده وتحويله إلى متحف”. هل هي خائفة؟ “بالطبع أنا خائفة. لا أستطيع النوم بالليل لأنني أخشى أن تأتي الشرطة في أي وقت وتطردنا. ولو استخدموا الغاز المسيل للدموع، لن تتحمله بناتي الصغيرات”. وتقبض بيديها على كتفي آية وريتشا، اللتان تجلسان مرتبكتان بجانبها على الأريكة.
ينهض منصور. ويتحرك نحو المكان الذي ترقد فيها ابنته ميساء ذات الشهرين، في عربة، تخفيها عن أشعة الشمس التي تدخل من الإطار الفارغ للباب، ستارة صغيرة. ينظر منصور إلى بضع قطرات متبقية في زجاجة الحليب الفارغة الخاصة بميساء، وإلى علبة مسحوق الحليب الفارغة بجوار العربة، ويبتسم.
ويقول بلهفة: “علبة مسحوق اللبن مثل هذه تكلف 15 ديناراً. وأنا لا أمتلك ولا دينار واحد”.
============
نيكولاس لين: مصور يعمل حالياً في تونس، وغطى قبل ذلك أحداث في اليمن
سام كيمبال: كاتب — عمل على مدار العام الماضي في تغطية منطقة شمال إفريقيا، وقبل ذلك كان يغطي الأحداث في لبنان، ومصر، واليمن حيث التقى بنيكولاس