كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة
رغم أننا نعيش في زمن لم يعد فيه للدهشة والصدمة مكان، إلا أنني صُدمت وأنا أشاهد مقطع الفيديو الذي انتشر على “اليوتيوب”، وعرضته قناة “العربية” في سياق تقرير لها عن المقاتلين السعوديين في سوريا قبل أيام. يظهر مقطع الفيديو شابين سعوديين جاثمين على رُكبِهما، معصوبَي الأعين، يقوم مقاتلون من تنظيم “جبهة النصرة” بإطلاق الرصاص على رأسيهما، بتهمة قتال الشابين إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، وذلك بعد أن يقوم أحد مقاتلي الجبهة بتلاوة الآية القرآنية الكريمة ((إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)).
لو كان هذا المشهد لمجموعة من ثوار “الفيتكونغ” يعدمون مقاتلين من أنصار “ديم”، إبان الحرب الفيتنامية في ستينيات القرن الماضي، أو كان مقتطعاً من أحد الأفلام التي تصور الحروب الصليبية الممتدة بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر الميلاديين، لأمكن استيعابه. ولكن أن يكون أبطال المشهد من فئتين تدّعي كل منهما أنها ترفع راية الإسلام، وتدافع عن الإسلام، وتتحدث باسم الإسلام، وتقاتل أعداء الإسلام، فهذا ما لا يمكن أن يتقبله عقل أو منطق، مهما كانت المبررات.
كلا الفئتين، “جبهة النصرة” و”داعش”، تنتميان إلى الفكر السلفي الجهادي، وكلاهما ترفعان علماً أسود، وكلاهما يحمل علماهما عبارة “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”، وكلاهما تربطهما بتنظيم “القاعدة” علاقة وثيقة. ومع هذا تتهم كل واحدة منهما الأخرى أنها تحارب الله ورسوله وتسعى في الأرض فساداً، وعلينا نحن الذين لا ننتمي لجبهة النصرة ولا لداعش، أن نحدد من الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فساداً، ومن الذي يحارب ((الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا)).
“جبهة النصرة” تنظيم تم تأسيسه أواخر عام 2011، خلال الأزمة السورية، ولا يعرف بالضبط ما هو أصلها، غير أن تقارير استخباراتية أميركية ربطتها بتنظيم القاعدة في العراق. لذلك قامت الحكومة الأميركية في ديسمبر 2012 بتصنيفها جماعةً إرهابية، لكن هذا التصنيف لم يلق قبولاً لدى المعارضة السورية وقادة الجيش الحر، وأطياف واسعة من الثوار. نفذت الجبهة هجمات عدة وعمليات كبرى ضد نظام بشار الأسد، كان أبرزها تفجير واقتحام مبنى قيادة الأركان في العاصمة دمشق أوائل أكتوبر من عام 2012، ويقود التنظيم أبومحمد الجولاني.
أما “الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروفة اختصاراً بـ”داعش”، فهي تنظيم يهدف إلى إعادة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة، وفقاً لما يقوله قادته، الذين قُتِل منهم أبوعمر البغدادي وأبوحمزة المهاجر، ويقوده حالياً أبوبكر البغدادي. بدأ التنظيم بتكوين “الدولة الإسلامية في العراق” عام 2006..
وبعد اندلاع الأزمة السورية وتشكيل “جبهة النصرة”، ظهر تسجيل صوتي منسوب لأبي بكر البغدادي، يقول فيه إن الجبهة هي امتداد لدولة العراق الإسلامية، ويعلن إلغاء اسمي جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق، وانضوائهما تحت مسمى واحد، هو “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. لكن تسجيلاً صوتياً آخر ظهر بعد فترة لأبي محمد الجولاني، ينفي فيه أن يكون هو أو مجلس شورى “جبهة النصرة” على علم بهذا الإعلان، ويرفض فكرة الاندماج، معلناً مبايعة تنظيم “القاعدة” في أفغانستان.
هذه التفاصيل، وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره، توضح لنا الالتباسات التي تكتنف الصورة، وتكشف الخلافات المتجذرة بين الذين يتصدرون مشهد رفع راية الإسلام في عصرنا هذا، ويعلنون حربهم على الذين ((يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا)). فأين نحن من هذا كله؟ وما هو موقفنا منه؟ وهل هي عودة جديدة إلى العصور المظلمة من تاريخ المسلمين؟
رب قائل يقول إن هذه خلافات بين جماعات صغيرة، على رقعة محدودة من أرض المسلمين، وإن هذه الجماعات ستصفي نفسها بنفسها. لكن الواقع يقول إن تأثير هذا الصراع لا يقتصر على أرض العراق والشام، وإنما يمتد إلى كل أرجاء وطننا العربي، وإلى المسلمين في كل بقاع العالم، بدليل تنوع جنسيات المقاتلين في صفوف هاتين الجماعتين وغيرهما من الجماعات والمنظمات التي لم نعد نعرف لها عدداً، وبدليل ما قاله أحد السعوديين العائدين من القتال في سوريا، خلال التقرير نفسه، حيث ذكر أن تنظيم “داعش” الذي كان يقاتل معه، يضع السعوديين في الصفوف الأمامية للمقاتلين..
ويأمرهم بتنفيذ العمليات الانتحارية، بينما ذكر عائد آخر أنه شاهد أطفالاً سعوديين بين سن الخامسة عشرة والسابعة عشرة في ساحات القتال، وقال إن هؤلاء الأطفال يطلب منهم القيام بعمليات انتحارية لسهولة التلاعب بهم. وأكد الاثنان أنه لم يعد هناك قتال ضد نظام الأسد، بل صراع بين “النصرة” و”داعش”، وأن كليهما يدّعي أنه على حق، وأنه المجاهد الحقيقي.
ما حدث ويحدث للشباب السعودي، يحدث لكثير من شبابنا وشباب المسلمين، فلماذا ينخدع أبناؤنا بمثل هؤلاء الذين يدّعون أنهم يقاتلون ((الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا))؟ ولماذا نترك المجال لدعاتهم ووسطائهم، كما اتضح من التقرير، أن يقتنصوا شبابنا ويرسلوهم إلى مناطق القتال تلك، وأن يمارسوا مهمتهم القذرة هذه؟ والأهم من هذا كله؛ متى يعرف هؤلاء الذين يدّعون أنهم يقاتلون ((الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا))، أنهم هم المفسدون الحقيقيون، وأنهم هم الذين يحاربون الله ورسوله؟!
المصدر: البيان