كاتب سعودي
الشريعة لا تتشوف للبحث عن المنكر، وتصرفات “داعش” مخالفة لها، وإذا تُرك الأمر للمتشددين وضغطهم وتجمعاتهم حتى ضد العلماء؛ فإن الأمر قد يستفحل لنتحول لحالة لا يمكن السيطرة عليها لا سمح الله
رأينا تلك المقاطع المؤسفة من متطرفة داعش وأخواتها، وكيف أنهم أقاموا حد الرجم على تلك المرأة المسكينة، ثم فعلوا الأمر مثله بعد أيام وهكذا! ومثله ما تفعله الجماعات المتطرفة في نيجيريا والصومال، ولك أن تتخيل أثر ذلك على العالم كله!
لن أتحدث عن حد الرجم نفسه، ولكن سألقي نظرة سريعة لمجموعة من تصرفات النبي -عليه الصلاة والسلام- مع أولئك الذين أقام عليهم الحد، أو ممن اتهموا بالزنا، لنرى كيف حكمة النبي -عليه الصلاة والسلام- ورحمته بأمته، وأن الشرع لا يتشوف إطلاقا لتطبيق هذا الحد أصلا، ولذا وضع له شروطا من الصعب جدا تحققها، إن لم تكن مستحيلة. كما سأتحدث حول بعض الحوادث التي ترك فيها النبي -عليه الصلاة والسلام- أناسا دارت عليهم الشبهة، واشتهروا حتى بالسوء.
أولا يجب أن نقول إن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة مبني على الظاهر من المنكر فقط، ولا يتشوف للبحث عن المنكر والسعي وراءه لإنكاره إلا المنكر المتعدي بمعنى المتاجرة بالخمور أو البغاء مثلا، فلا يجوز التجسس أو حتى السؤال أو وضع الكمائن والمطاردة لأجل الوصول للمنكر وفاعله بأي حال، والأحاديث والشواهد على هذا لا تُحصى في الشريعة، إلا أن بعض المحتسبين قد اعتادوا على طريقة في الاحتساب ولا يتقبلون أي نقد حتى لو كان مبنيا على النصوص الشرعية وفقهها! هذه الطريقة في الاحتساب قادت للكثير من التنطع والتشويه للدين بشكل لا تُحصر نتائجه السيئة للأسف، ومنها هذه الحادثة التي هي محل المقال (تطبيق حد الرجم).
باستعراض أحاديث الرجم في السنة النبوية؛ نجد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أتاه رجل وجد آخر مع امرأته ويتهمه بالزنا، ووصف له ذلك الرجل الذي يتهمه، فاكتفى عليه الصلاة والسلام بأن قال: “اللهم بيِّن”، وتركهم إلى أن وضعت المرأة طفلا، فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها، فاكتفى عليه الصلاة والسلام بأن لاعَنَ بينهما، فقال رجل لابن عباس -راوي الحديث-: هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه، فقال: لا تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء”.
لننظر في هذا الحديث النبوي؛ نجد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يُرسل للمرأة هنا ولم يسأل عنها، ولم يُحقق معها نهائيا، بل حتى بعد أن وضعت ولدا شبيها بالشخص الذي ادعى زوجها أنه رآه عندها لم يدْعُه عليه الصلاة والسلام، ولم يسأله ولا حقق معه هل فعل أو لا؟ بالرغم من أن الولد شبيهه! بل حتى لم يُنقل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- دعا المرأة أو الرجل لأجل الموعظة والنصح فقط! فأين هذا من تصرفات بعض المنتسبين للاحتساب اليوم -وأرجو أنهم قلة- عندما يبحثون عن المنكر ويجتهدون حتى في إثباته على فاعله! أليس هذا مخالفا للهدي النبوي؟
لنأخذ شاهدا آخر؛ وفيه أن رجلا علم بزنا ابنه فأخذ ابنه وزوج المرأة التي واقعها، وأخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بما حدث، فأخبره عليه الصلاة والسلام بأنما على ابنه جلد مائة وتغريب عام، ثم قال: “واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت”.
فنلاحظ هنا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد أرسل للمرأة يسألها فقط عن الفعل، بينما في الحديث السابق لم يفعل، ولذلك قال الإمام النووي: “واعلم أن بعث أنيس محمول عند العلماء من أصحابنا وغيرهم على إعلام المرأة بأن هذا الرجل قذفها بابنه، فيعرفها بأن لها عنده حد القذف فتطالب به أو تعفو عنه إلا أن تعترف بالزنا، فلا يجب عليه حد القذف..، ولا بد من هذا التأويل؛ لأن ظاهره أنه بعث لإقامة حد الزنا وهذا غير مراد؛ لأن حد الزنا لا يحتاج له بالتجسس والتفتيش عنه، بل لو أقر به الزاني استحب أن يلقن الرجوع كما سبق”.. لاحظ فقه النووي رحمه الله، وكيف أن الشريعة لا تتشوف لإقامة حد الزنا ولا التجسس والتفتيش عنه.
ثم في قصة إقرار ماعز؛ حيث أقر بالزنا مرتين والنبي عليه الصلاة والسلام يصدّ عنه، وفي بعض الروايات أنه اكتفى بأمره بالاستغفار والتوبة، ثم في الثالثة والرابعة كان يُرسل لقومه يسألهم عن سلامة عقله؟ ولم يسأله النبي عليه الصلاة والسلام عن المرأة التي زنى بها ولا بحث عنها، وورد أنه حاول الهروب ولكن الصحابة لحقوا به وقتلوه، فأنكر عليهم عليه الصلاة والسلام، وقال: “هلا تركتموه”، ففي الزنا يجوز الرجوع عن الإقرار، بل يُسن إقناعه بالرجوع كما فعل في الحديث أعلاه، وكما في حديث الغامدية؛ عندما تركها مرتين ثم ردها إلى أن تضع المولود في الثالثة، ولم يسأل عنها، ثم جاءت بعد الوضع فردها للإرضاع، ولو لم ترجع لما سأل عنها، ولا سأل عن الرجل الذي زنت به. كل هذا يدل على أن الشريعة لا تتشوف للبحث عن المنكر وفاعليه ما لم يُجاهروا به، ولم تدع للسؤال حتى في موضع الريبة والشك. بل جاءت الشريعة بالمنع عن التجسس والتلصص على الناس، وتدعو للستر وعدم البحث في أسرار وخصوصيات الآخرين لأجل التأكد عن صحة الشبهة أو سلامة العلاقة بين المشتبه بهم. وفي حال ظهر شيء من المنكر فإن الواجب إنكار ذلك المنكر كما هو، والتوقف عند ذلك بعدم البحث عن غير الظاهر، فإذا جاهرت امرأة بالتبرج مثلا وهي مع رجل، فليس للمحتسب إلا إنكار التبرج، ولا يجوز السؤال عن علاقة الاثنين ببعضهما البعض، ولا تجوز مطاردة المشتبه بهم، فضلا عن تعريضهم للخطر، وهذا مخالف للهدي النبوي، بل هو من فعل الخوارج الذين كانوا يمتحنون الناس.
خلاصة الكلام؛ أن هذه التصرفات مخالفة للشريعة، وإذا تُرك الأمر للمتشددين وضغطهم وتجمعاتهم حتى ضد العلماء؛ فإن الأمر قد يستفحل لنتحول لحالة لا يمكن السيطرة عليها لا سمح الله.
المصدر: الوطن السعودية
http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=23585