خاص لـ هات بوست:
ها أنا في مطار شارل ديغول، أتهيأ لرحلة العودة من باريس، مدينة الحب والأنوار. وأسأل نفسي: كم من الحكايات شهدتها
المطارات؟ وكم من الدروس تسلّلت إلينا مع كل رحلة، ولم ندركها إلا عند الوصول؟
قبل أن تبدأ الرحلة، ننشغل بأحاديث لا تنتهي عن الحقائب، الوزن المسموح، والوجهات البعيدة. لكن الحقيبة الأثقل ليست ما نحمله في أيدينا، بل ما نحمله في داخلنا: ذكريات وأشياء لا نستطيع تركها خلفنا. وربما كان هذا هو الدرس الأصعب في السفر.
المطار ليس محطة عبور فحسب، بل مسرح صغير للعالم. ازدحام يبدو فوضويًا، لكنه يخضع لنظام صارم. وجوه عديدة ، حقائب متلاصقة، أصوات تتناوب بين إقلاع وهبوط. وبين هذا الحشد تختلط المشاعر: جسد مثقل بالتعب، قلب يترقب لقاءً غائبًا، وعيون تبحث إمّا عن نوم قصير أو عن وداع أخير. حتى صوت عجلات الحقائب على الأرضية اللامعة، ورائحة القهوة المتصاعدة من المقاهي، يضيفان لمشهد الانتظار نكهته الخاصة.
وفي المطار نكتشف هشاشتنا أمام الزمن؛ فالساعات المعلّقة على اللوحات الإلكترونية لا تعني سوى لحظات تتسرّب منا بصمت، ونحن ننتظر نداءً أو لقاءً. ربما السفر ليس انتقالًا في المكان بقدر ما هو انتقال فينا، في ذاكرتنا ووعينا. كل إقلاع يشبه ولادة جديدة، وكل هبوط يشبه موتًا صغيرًا. وما بينهما نعيش تلك المسافة المعلّقة التي لا يملكها أحد، سوى قلوبنا التي تتأرجح بين مشاعرها وأفكارها.
الطريق في المطار سلسلة طقوس لا مفر منها: صفوف طويلة، نداءات متكررة، وصبر على العبور. ومع ذلك، يشترك الجميع في انتظار لحظة واحدة: لحظة الإقلاع حين يُشدّ الحزام، أو لحظة الوصول حين يُفتح. لكن هل الوصول نهاية فعلًا؟ أم بداية أخرى؟
وحين نتأمل، يصبح المطار درسًا خفيًا في معنى الحياة: رحلة تختصر الوجود نفسه—ركض لا ينتهي خلف محطات لا ندري: أهي بدايات أم نهايات؟ وضجيج يشبه ضجيج أفكارنا ونحن ننتظر ما لم يحن بعد. وحتى اللقاء المنتظر قد لا يكون سوى محطة أخرى للفقد والغياب.
المطار يذكّرنا أن الحياة ليست وصولًا بقدر ما هي انتظار، وليست وجهة بقدر ما هي تحوّل يحدث لنا ونحن ننتقل من مكان إلى آخر، ومن حال إلى حال. وهنا أستعيد كلمات جبران خليل جبران:
“السفر فينا لا في البلاد، لأن البلاد لا تتبدل بقدر ما نتبدل نحن. وإذا نحن لم نحمل بلادنا في قلوبنا، فلن نجدها في الأرض التي تطؤها أقدامنا.”
وربما السفر سؤال بلا جواب، نردّده مع كل إقلاع وهبوط. لكنه، في جوهره، قوة خفية تغيّرنا، تكشف لنا ما لم نكن نراه، وتعيدنا مختلفين عمّا كنّا.
وما أعلمه يقينًا أن بعض الرحلات لم تُعدني كما غادرت، بل أعادتني بوعيٍ آخر يمنحني نَفَسًا جديدًا ورؤية أوسع للحياة. لم تنتهِ بالوصول، بل بدأت داخلي رحلة لا عودة منها… حقيبة لا أفرغها أبدًا، تزداد امتلاءً في كل سفر بمعنى جديد.
وكأن داليدا تهمس من بعيد: سالمة يا سلامة… رحنا وجينا بالسلامة.