محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
أقرب تشبيه مرّ بخاطري حينما طلب مني الزملاء في صحيفة الشرق المساهمة في ملف (التحولات وتأثيرها على الوعي العربي)، أنه (الرقص على السلم) بكل ما يعنيه من رمزية. لعلي أستطيع بضمير مرتاح أن أصف ما يدور حولنا بأنه (أكبر تضليل إعلامي) جرى على المواطن العربي، ونتيجته استباحة كل هذه الدماء الزكية التي تسيل على مذبح هذا التضليل. التضليل الإعلامي من الكثافة إلى درجة أنه أنتج لنا عقلا (نخبويا) مشوشا، وعقلا (جماهيريا) تائها في الظلام! كلاهما أعمى!
يقول لنا التضليل إننا لا نعرف على سبيل الدقة من أرسل أبخرة الموت إلى أهلنا في الغوطتين في دمشق! لا واشنطن ولا موسكو تقرران من الفاعل! بقي أن يقرر المتابع أن من فعل ذلك هم أهل الغوطتين! حيث استنشقوا عنوة الأبخرة القاتلة ظنا منهم أنها رياحين دمشق!
ولا نعرف على وجه اليقين إن كان قد بقي في مصر (إسلام) فهناك من يمطرنا بالقول إن (الإسلام) و(الإخوان) صنوان، فإن زال سلطان الإخوان في مصر، اختفى -والعياذ بالله- الإسلام! لقد استولى بعضهم على إسلامنا حتى لم يعد لديهم فرق بين شهوتهم للدنيا، وتدين الجماهير الأصيل الباقي.
القتل أمام المساجد أصبح لهوا، فها هم المصلون يُصلون في مساجد طرابلس وهم أنقياء ومعبدون بالشواظ، وها هو نفس الفعل في مساجد ودور العبادة في العراق. في ليبيا وفي تونس وفي غيرها يتسابق بعضهم لاحتكار ما أباح الله للجميع، وأصبح لهم خاصة من دون الناس، من أجل أن يحققوا منافع دنيوية لهم، لا تخرج بحال عن أشكال التسلط السابقة، بل وفي بعض الأوقات تفوقها!!
إن من يبحث عن (الديمقراطية) في هذه الأجواء العكرة، يبحث عن سراب، ومن يبحث عن العدل يبحث عن أوهام، ومن يبحث عن السلام يجد برك الدماء حوله تطارده حتى في أقصى الزوايا!
قليلة هي الأوطان التي نجت من هذه الفوضى، إلا أن كثيرا من مواطنيها يخضعون للتضليل وتتقاذفهم الاتجاهات ليل نهار إلى درجة متضاربة وأيضا مخيفة. وسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة وصلتها العدوى أيضا من هذا التضليل، فانقسم الناس، في كثير من الأوقات، دون علم بين، أو يقين ثابت، بين هذا الفريق أو ذاك، مختصمين حتى الثمالة.
(المتلازمة الإيرانية) بدأت تضرب بقوة في الجوار العربي، وأعني بها (خلط الدين بشكل سلبي بالسياسة) فأصبح القتل على الهوية لازمة من لوازم الصراع، وتشققت المجتمعات، فكانت صيحة المتشددين والغلاة أقوى وأعلى وأكثر تأثيرا من نداءات المتسامحين والعقلاء وأهل الدين القيم! كل حزب بما لديهم فرحون مع تغييب كامل للعقل وللإنسانية معا. المعركة طويلة وقاسية وليس لأحد منا عنها فكاك، وهي تخاض أول ما تخاض على عقول شبابنا وتغذيها بـ(أجندات) كثير منها متقن الصنع من جهات لها مصالح، وبعضها يحوطها الجهل وقلة المعرفة! وكلاهما يصبان في نهر (خراب الأوطان) مصر ذات النسيج المتداخل تتعرض لهجمة شرسة، سوريا تتمزق وتنبعث منها حرب طائفية كريهة لها رائحة الجيف، العراق لم يعد وطنا للجميع، وأصبح شتاتا فئويا قابلا للعطب والتمزق والتقاتل والضعف الذي يغري بالتدخل، وحدث مع آخرين أيضا. وهل ليبيا أو تونس بعيدة عن (حروب الاستحواذ)!
الوقت العربي عصيب، والوعي العربي في أكثر أزمنته ضبابية، يزيد منها هذا الكم الهائل من التضليل، وهذا الكم الهائل من المصالح الدولية والأقليمية المتشابكة.
بصيص أمل يلوح لي في سرعة تصليب محور (القاهرة، الرياض) فالرياض يمكن لها أن تقوي الممانعة مع إخوتها في الخليج من جهة، والقاهرة ذات التاريخ والتسعين مليونا من البشر، يمكن لهما، في حال توافق الطرفان ووضعت استراتيجية تقابل الفوضى بالحسم، أن يقللا من هذا الموج الهائج من الضياع من جهة والتوهان من جهة أخرى. بغير الحسم، يمكن أن يتحول العرب إلى سلوك الجراد، عندما يجوع يأكل بعضه، وعندما يفقد العرب البوصلة ويقتحم عقلهم التضليل، قد يقتل بعضهم بعضا والعالم يتفرج. لا أميل إلى القول إن الخلاص من الخارج، تلك كذبة أخرى كبيرة، الخلاص من الداخل، في يقيني يبدأ بذلك المحور الذي ذكرت، وإلا فلنستعد للطوفان!! أسوأ ما يمكن أن يحصل لنا في هذه المرحلة الفارقة أن نبقى نرقص على السُّلم!!!
المصدر: الشرق