كاتب سعودي
لا يمكن فهم الهجوم المستمر على السعودية في هذه الأيام دون أخذه في سياقات خارج ملف جمال خاشقجي، سواء على مستوى الشخص وما أحاط به من قبل وبعد من إشكالات وأسئلة تتجاوز مسألة مقتله الأليم والبشع، أو على مستوى جمال كحالة سياسية ستكون أكثر نموذج يتذكره السعوديون جيداً في الابتزاز والمغالطة وسقوط رموز إعلامية وسياسية كبرى في فخ استباق التحقيقات وفقدان الأدلة، إلى اتخاذ موقف بشكل مؤدلج حيناً، وبشكل غير أخلاقي وانتهازي في أحايين كثيرة، كما شهدنا خلال الفترة السابقة.
ما يحدث هذه الأيام تجاه المملكة هو استغلال المكانة الاستثنائية لهذه الدولة على مستوى الجغرافيا والتاريخ والإمكانات والفرص الاقتصادية ثم النفط، وصفقات الأسلحة والاستثمارات الضخمة، وهما محفّزان يمكن من خلالهما فهم هذا الاضطراب والتناقضات في التصريحات والمواقف، خصوصاً في بعض الدول الأوروبية والأجنحة السياسية المتصارعة في الولايات المتحدة.
لفهم سياق هذا الصخب، يجب الرجوع إلى مدخل مفاهيمي مهم، وهو الدعاية السياسية (البروباغندا)، وهي واحدة من أهم الأدوات؛ يتم توظيفها في عالم السياسة والاقتصاد بهدف تغيير الصورة النمطية، أو المبالغة في تحشيد الجماهير لاتخاذ موقف من قضية ما يتجاوز حجمها، وبحسب الفيلسوف الأميركي جيسون ستانلي مؤلف كتاب «كيف تعمل البروباغندا»، فإن الهدف المركزي للدعاية هو العمل على «صياغة الرأي العام» و«كسب تأييد مختلف المجموعات الاجتماعية» و«بناء رؤية محددة للعالم»، وهذا ما يحدث الآن، وبشكل هستيري، كما وصف الأمير تركي الفيصل في مداخلته العميقة حول قضية خاشقجي، وهو الأقرب له من باقي كل المسؤولين السعوديين، حيث تحول رهان صانعي البروباغندا من وكالات إخبارية تحولت من ناقلة للخبر، إلى صانعة ومحللة للحدث، إلى صحف أميركية وغربية تجاوزت أبسط معايير المهنة والحياد، إلى تلقف كل التسريبات المتناقضة وغير الدقيقة. تحول هذا الرهان من معرفة الحقيقة إلى تمرير مواقف مسبقة وجاهزة تتسم دائماً بالكثير من التناقض واللامنطقية، وفي هذه الحالة بدأ الأمر يتجاوز التصريحات الأولية للتحقيقات السعودية إلى استهداف الدولة نفسها برموزها.
يأتي هذا نتيجة النجاحات الباهرة التي تتحقق على أرض السعودية، بفضل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي يتجاوز توصيفه السياسي بتحوله إلى مشروع مستقبل وأمل لكل السعوديين، لا سيما الشباب الذين عبروا بشكل واضح وحاسم عن إيمانهم به وبمشروعه وقطيعته مع الإرهاب والتشدد، ورغبته في تجاوز كل التجارب الإقليمية لتدشين مرحلة جديدة، وأهم تلك التمظهرات للجيل السعودي الجديد في حوارات ونقاشات ولقاءات أجرتها وكالات وصحف غربية مع عينات عشوائية من الجيل الجديد بعد حادثة خاشقجي، وكانت النتائج صادمة ومفاجئة لتلك المؤسسات، بينما عمدت صحف أخرى أكثر رزانة من الصحف التي تبنت أسلوب البروباغندا لأهداف سياسية، وأعني هنا مجلة «النيويوركر» العريقة، التي صرحت في تحقيقها الأخير بأن الشعب السعودي عصي على الاختراق وغير قابل للتثوير بسبب أحداث أو جهات خارجية.
المخيال السياسي السعودي يعرف كيف يتعامل مع الأزمات، وكيف أنه تجاوز منذ التأسيس منعرجات حرجة، بحسب تعبير الراحل جمال خاشقجي، الذي للمفارقة يخالف في تصريحاته وآرائه كل المستغلين لقميص موته، سواء في ملف اليمن أو حتى في الموقف من ولي العهد ومشروعه الإصلاحي الشامل، وصولاً إلى الموقف من فهم عدد كبير من الدول الغربية للداخل السعودي بشكل مغلوط ومبتذل. في هذا السياق، فإن التوجه السياسي يهتم بالأفعال والمحددات السياسية والتأثير، نجد ذلك في أن المملكة أكبر ممول لمشروعات الأمم المتحدة التي تريد اليوم أن تستغل الحادثة قبل انتهاء التحقيقات والسياق القانوني، ونجده أيضاً في أن السعودية لم تلفت إلى الربط غير المنطقي بين حالة خاشقجي والأزمة في اليمن، التي لطالما أكدت أنها ليست حرب استئصال أو تدمير للبنية السياسية، كما كانت حرب العراق، وكما كانت ثورات «الربيع العربي»، بل هي حرب ردع للرجوع إلى الشرعية التي اتفق عليها اليمنيون، ومن ضمنهم حزب «أنصار الله» الحوثي، وكانت السعودية منذ بداية الحملة الدولية القانونية حريصة على الحل السياسي، وحتى قبل فترة وجيزة كان الحوثي هو من تخلف عن المفاوضات المقررة في جنيف، وتجلت لا مسؤولية هذه الميليشيا الإرهابية في استمرار إرسال صواريخها العبثية تجاه السعودية، حتى بعد موجة المطالبة الدولية بإنهاء الحرب في اليمن.
هناك تحول كبير يجري في بنية المشهد الخليجي، والسعودية بشكل خاص؛ لم تستوعبه الكثير من المؤسسات الغربية السياسية والإعلامية؛ تحولٌ على مستوى السياسات العامة التي تمسك بزمامها الدول، وتحولاتٌ أكثر عمقاً على مستوى مكونات المجتمع الخليجي السياسية والاجتماعية، بسبب تحول جذري وراديكالي في مصادر التلقي والخطابات السائدة، والمشروع الذي دشنته الرؤية الإصلاحية لولي العهد السعودي، الذي يتكالب عليه اليوم الكارهون للسعودية الجديدة، المشروع الذي تسبب في انخفاض مستويات الإرهاب والعنف وتراجع الإسلام السياسي وخطابات «الصحوة»، في مقابل خطابات تنويرية جديدة تحمل «هويّة» سياسية لسعودية تسعى إلى دولة الرفاه أولاً، وتتجاوز في مكونها الثقافي مقولات «الحاكمية» و«دولة الخلافة» وشعار «تطبيق الشريعة» وكل فسيفساء المعارضة الأصولية والإرهابية التي تلمعها قناة «الجزيرة». كل هذا يشي بأن الموقف من السعودية اليوم يتجاوز ملف خاشقجي، إلى تأسيس لحملة بروباغندا سياسية وابتزاز غير مسبوق للأسف الشديد.
المصدر: الشرق الأوسط