رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط
خلال العقد الأخير ظهر بوضوح عودة الدب الروسي بثبات إلى الساحة الشرق أوسطية، وتزامن ذلك مع تنامي علاقاته بكل من مصر وتركيا والعراق والنظام السوري، بالإضافة إلى إيران طبعاً، ومع ذلك كانت علاقاته مع السعودية تمر في طريق جبلية ضيقة وسط تعرجات دائمة، قبل أن تتوتر بشكل كبير على خلفية الموقف من الأزمة السورية، وأول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن علاقات البلدين الملف السوري، الذي ظل يمثل نقطة خلاف كبيرة ومعقدة بينهما، وعائقاً أمام تطوير العلاقات رغم تعدد المحاولات، لكن يونيو (حزيران) 2015 كان حاسماً في إعادة تأسيس العلاقات السعودية – الروسية بعد عقود من البرود، وحدث ذلك في زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى روسيا، والتي جاءت بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حيث توصلت الرياض وموسكو لنتيجة حتمية في علاقاتهما المستقبلية، فهما تفضلان التركيز على المصالح المشتركة المتوافرة في مجالات واعدة، أكثر من الاختلاف في المواقف على قضايا أخرى أثرت سلباً عليهما، يمكن القول إن الرياض نجحت حينها في إذابة الجليد في علاقاتها مع موسكو.
وإذا كانت تلك الزيارة عكست نجاح البلدين في تجاوز عقدة الأزمة السورية، بعدما أدركا أن ما يجمعهما أهم وأوسع نطاقاً من تباعد مواقفهما، فإن زيارة الملك سلمان لروسيا التي تبدأ اليوم، تمثل منعرجاً حاسماً في مسار علاقات الرياض بموسكو، حيث ستسعى الزيارة للتخلص من العوامل الخارجية التي كثيراً ما أثرت على العلاقات بينهما، أو كما يقول السفير الروسي لدى السعودية إن «هناك جهات تسعى لضرب العلاقات السعودية – الروسية، من بوابة الملف السوري». وفي زيارة الملك سلمان إلى روسيا فإن مرحلة جديدة من تحالف سعودي – روسي مبني على المصالح المشتركة تلوح في الأفق مما ينعكس على أمن المنطقة واستقرارها، وهو هدف استراتيجي تسعى له الرياض كما موسكو، وفي الوقت نفسه مواصلة السعودية تقديم نفسها كلاعب إقليمي ودولي لا يمكن الاستغناء عنه.
يُحسب لواضعي السياسة الخارجية السعودية أنهم وضعوا في حساباتهم في علاقاتهم مع روسيا التخطيط على المدى البعيد، من خلال حزمة من المصالح الاستراتيجية، فوجود خلافات جانبية أو حتى علاقات متميزة مع الغرب لا يمكن أن تكون عائقاً لنجاح شراكة سعودية – روسية، كما يحسب للسعوديين تبنيهم لسياسة خارجية متوازنة قوامها تنويع الخيارات من خلال الانفتاح على روسيا كما هو مع قوى دولية أخرى، بالإضافة إلى أن السياسة السعودية تستهدف العمل على تنوع شركائها، بما يمنحها قدرة على إدارة علاقاتها الدولية على أسس متوازنة مبنية على المصالح المشتركة، غني عن القول إن هذه الشراكة، متى ما تم تفعيلها اقتصادياً وتجارياً وعسكرياً، فستعين موسكو على موازنة علاقاتها المعقدة مع إيران، وهي محور لا يغيب عن مسيّري السياسة السعودية الخارجية، بعد أن استغلت طهران جيداً الابتعاد السعودي عن المرور عبر دهاليز الكرملين.
الرياض تختلف فعلاً مع موسكو في الملف السوري، لكنها أيضاً وهي تتبنى سياسة واقعية تبتغي منها شركاء لا حلفاء على قاعدة المصالح المتبادلة، تدرك أن هناك الكثير الذي يمكن تحقيقه من علاقات قوية مع موسكو، فهي تعلم أن روسيا تضع على رأس أولوياتها، وهي الدولة التي تمثل صادراتها من النفط نحو 60 في المائة من عائدات ميزانيتها، أن يكون هناك نوع من التنسيق والتفاهم حول أسعار النفط وكميات إنتاجه مع السعودية، وهو ما نجح فيه البلدان سوياً، للمرة الأولى، في قيادة سوق النفط العالمية للخروج من أخطر أزمة تمر بها، والمرور من عنق الزجاجة بالوصول إلى سعر قريب من الستين دولاراً بعد أن بلغ دون الـ28 قبل أقل من عامين، وأمس قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال افتتاح الجلسة الرئيسية للأسبوع الروسي للطاقة والذي يتزامن مع زيارة الملك سلمان إلى روسيا، إن بلاده أسهمت في عودة الاستقرار مجدداً لأسواق الطاقة بالتعاون مع منظمة «أوبك».
ظلت السعودية وروسيا تظهران وكأنهما خصمان وتتباعد المسافات بينهما آلاف الأميال، وضربت مساعي التقارب بينهما من أطراف عدة، إلى أن أثبتت الحقائق والوقائع أن البلدين ليسا كذلك إطلاقاً، وهو ما ستفتح آفاقه زيارة الملك سلمان باعتبارها اللحظة التاريخية التي تدفع الطرفين للتوافق والتقارب، ودخول علاقاتهما مرحلة أكثر تفاهماً وأعمق تعاوناً وأوسع نطاقاً.
المصدر: الشرق الأوسط