كاتبة سعودية
قبل نحو سبع سنوات، أخبرني صديق ألماني يدعى «بيتر» عن مشروعه الثقافي الضخم. مشروع بحجم طموح بيتر. لكنه أكبر بكثير من ميزانيته المحدودة. بيتر موسيقي يعشق «الثقافة العالمية»، فأراد أن يترك أثرا في هذا العالم.
كانت فكرة بيتر هي إنشاء قصر عائم بتصميم أندلسي على شاطئ ماربيا Marbella في إسبانيا، يقيم فيه مهرجانات ثقافية عالمية يدعو إليها أناسا من مختلف دول العالم. في 2006، أرسل لي بيتر الرقم السري للدخول على موقعه الخاص بالمشروع. فتحته فظهر لي مقطع فيديو يبدأ بمشهد لفارس عربي يضرب الصحراء على ظهر فرس، مع مؤثرات صوتية بطابع عربي، ومن ثم تظهر مشاهد عالمية مختلفة بمؤثرات مختلفة. مشهد فروسي كهذا يحرك في جيناتنا العربية الكثير. مشهد يضخ الأدرينالين إلى حد مرهق. ربما التاريخ، ربما الثقافة، ربما الفردوس المفقود في إسبانيا. إلا أن هذه اللقطة بلا شك كانت فكرة تسويقية ذكية ومؤثرة للثقافة العربية تحديدا.
لم يكتف بيتر بالحلم بل جاهد كثيرا من أجله لغاية الإصرار والتحدي، فطلب دعما من الحكومة الإسبانية التي وعدته بتوفير جزء من التمويل، إضافة إلى الخدمات اللوجستية. ولأن ذلك التمويل لم يكن كافيا، فقد لجأ إلى دعم خليجي. ولم يتم له ذلك أيضا برغم وعد مستثمر من دولة خليجية مجاورة بتمويل المشروع بمبلغ أربعين مليون يورو. ولأن إسبانيا هي جزء من الاتحاد الأوروبي، فقد كانت هناك عوائق إضافية تختص بالبيئة وغيرها عطلت المشروع.
أرسل إلي بيتر مؤخرا رسالة بها رائحة اليأس. شعرت ببعض الأسى، وقد كنت آمل أن أحضر افتتاح المشروع، وأدعو أصدقائي السعوديين والعرب لنكون بين الحضور العالمي الغفير، الذين ينشدون السلام والمحبة في هذا العالم. أحمل معي: «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم». ما أجمل فكرة السلام حين تجيء على طريقة بيتر.
إنها الثقافة، الجسر الأقصر للسلام بين الشعوب. لا شيء يمهد للسلام والحوار مثل «التعارف». كل مشاريع الفهم والسلم تنطلق من هذا الطريق. كل الذين نجهلهم أعداء حتى نعرفهم. كل الأمور المبهمة مخيفة. عدوة. «التعارف» يختصر الكثير من حملات العلاقات العامة التي قد تضيع هدرا. حوارات السلام تبدأ من الشعوب. من قلوبهم. من عقولهم. ربما يمكنني القول أن شطيرة مربى وقهوة صباحية وحديثا حول الطقس فكرة كافية. ربما تحية نقية ورفقة مشي في شارع أيضا فكرة كافية. ربما تعطل طائرة وحديث جانبي إنساني فكرة كافية. كافية تغني عن بعض محاولات عقيمة لا تنجب.إننا بهذه المعرفة نروج لأنفسنا ونعرّف بها بالشكل الإنساني الفطري.
أحببت شعب كيرلا مقدما لأن سائقي الهندي الودود «شاه جهان» كان من كيرلا. وأصبحت أقدر الألمان بسبب «بيتر». وديبلوماسي فرنسي يدعى «جان-ماري» أحب كل السعوديين لأن لديه أصدقاء سعوديين يحبهم فانحنى لتحيتي في مطار شارل ديغول. وأحدهم قال: «لا يمكن أن أكره الشيعة لأن الذي كان يقضي حاجاتنا ويحملنا بيديه إلى المستشفى ونحن صغار بلا أب في الطائف كان جارنا الشيعي». وأحدهم قال: «لا يمكن أن أكره السنة لأننا كنا نأكل ونبيت في طفولتنا كل نهاية أسبوع مع إخواننا من جيراننا السنة في الأحساء». هكذا يُصنع السلام. السلام البسيط غير المكلف. وصفة سهلة أليس كذلك؟.
المشاريع الضخمة النبيلة للسلم بين العقائد والحوارات بين المذاهب والأديان ربما بالإمكان الإضفاء إليها ذلك البعد الإنساني الفطري البسيط. بل البسيط جدا. وتحية لمشروعي الملك عبدالله بن عبدالعزيز: الأول لحوار الأديان، والأخير للحوار بين المذاهب الإسلامية، والذي انطلق من مكة المكرمة على هامش مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي الذي أتمنى أن نتفاعل بحق وبمسؤولية مع رؤيتهما النبيلة. هكذا نتسق مع الذات ومع المجتمع ومع العالم، بلا مركزية لتعاظم هذه الذات وتقوقعها، أمام مد لا يمكن تجاهله من العصرنة.
العالم مشغول، مشغول بالحضارة حتى أنفه. هذا العالم المشغول بالحضارة هو كله كتلة من الاختلافات، بين الجنس واللون والعرق والثقافة والمعتقد والقائمة تطول. وإن الدوغمائية والتقوقع المميت حول الذات ليذكرني بالطرفة الساخرة لمونتسكيو (شارل لوي دي سيكوندا (1689 – 1755)، فيلسوف فرنسي صاحب نظرية فصل السلطات الذي تعتمده غالبية الأنظمة حاليا)، الذي يصف بدقة رد فعل مواطني «باريس الصالحة» في القرن الثامن عشر حيث تقوقع الفرنسيين مع ذواتهم خير مثال، وقد وجدوا أنفسهم وجها لوجه مع أمير جاء من إسطنبول، فسألوه: هل السيد فارسي؟ إنه لشيء عجيب! فكيف يمكن أن يكون الإنسان فارسيا؟. نحن نروج لأنفسنا بأنفسنا. بأفعالنا. بالصورة التي نشكلها أمام جيراننا كما أمام العالم. وأن نأخذ في الاعتبار أن الأمم التي لم يعد لديها شعار «موحّد» ترفعه بشموخ، وتطل برأسها للأعلى هي أمم على شفا الانحطاط.
لذا نحتاج إلى تلك المنطقة الرمادية التي تشتت الفروقات لا الأمة. والتركيز على أهمية مجتمعاتنا وشعوبنا وأوطاننا وأماكننا في مسرح العالم. ذلك المسرح المشغول جدا بالمدنية والتقدم والأبحاث والعلوم والفضاء. ولربما جمعنا مشروع نبيل لا «موقع» له سوى هنا في رؤوسنا. ولبيتر أقول «سأبقى أنتظر المشروع ولربما نقص الشريط يوما».
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٢٧٥) صفحة (١٢) بتاريخ (٠٤-٠٩-٢٠١٢)