السلطة المعنوية بعيدا عن السياسة أصبحت موضوعا شائقا، وعني به من قبل المهتمين بكتب تطوير الذات، الذين يقدمون للقرّاء نظريات ونصائح لصناعة القائد والقدرة على التأثير والشخصية الكاريزمية، واستلاب القلوب والألباب، وأصبح الإقبال على مثل هذه الكتب من قبل الإداريين والاقتصاديين يفوق الإقبال على كتب الإدارة الفنية الصرفة وبقية الكتب العلمية.

أما في حقل السياسة فالحديث ذو شجون، وإن كان في ظاهره يعد شكلا من أشكال الترف، إلا أنه مرتبط ارتباطا أصيلا بمبادئ سياسية مهمة كالشرعية السياسية على سبيل المثال. فالشرعية السياسية هي في الأساس «ثقة» يمنحها المجتمع للنظام السياسي، ويخوله لإدارة شؤون المجتمع وفق حدوده الجغرافية.

وبالطبع الحصول على هذه الثقة ليس بالأمر اليسير؛ ولن يتأتى لأحد الحصول على «الثقة» دون أن يمتلك سلطة معنوية خارقة تمكنه من كسب ثقة المجتمع. ففي مراحل التحولات السياسية فتش المؤرخون عن السلطة المعنوية فوجدوا أن امتلاكها يعد ضمان امتلاك ثقة المجتمع الذي يعتقد أن هذه السلطة المعنوية معبرة عن إرادته، وبالتالي ينتج عن هذا شكل سياسي جديد! فنابليون الذي أجرم في حق الإنسانية، واغتصب السلطة، واحتل أكثر من عشر دول، وأزهقت آلاف الأرواح من أجله، لم يكن ذلك مقبولا لولا سلطته المعنوية التي من خلالها استطاع كسْب ثقة الناس وهو يقودهم إلى الهاوية! والمستشار بيسمارك استطاع من خلال سلطته المعنوية توحيد الولايات الجرمانية وظهور ألمانيا الحديثة كدولة قوية.

والآباء المؤسسون الأمريكيون استطاعوا كسب ثقة المواطن البسيط الذي أرهقته ضرائب بريطانيا المتعجرفة، وبالتالي حققوا حلم الاستقلال والاتحاد، كما أن المحارب «جوزيبي جاريبالدي» استطاع بفضل شعبيته أن يسهم في توحيد إيطاليا.

وبالطبع فإن فقدان هذه السلطة المعنوية لأسباب كثيرة – أهمها فقدان المصداقية وعدم القدرة على الوفاء بالوعود – ينذر بتحولات خطيرة، فأحد العلماء تنبأ بسقوط الدولة الأموية قبل أن يحدث ذلك فعليا، وذلك عندما رأى تجرؤ الناس على الشرطة! وهذا له دلالة بالغة على فقدان الدولة الأموية سلطتها المعنوية بسبب عدم قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها تجاه الناس. وفي إنجلترا علق المفكر «هيوم» على الوضع الذي تفككت فيه السلطة المعنوية قائلا: «أما الحديث عن الملك الإنجليزي بصفته مندوب الله على الأرض؛ فلن يثير سوى الضحك لدى الجميع» وهذا المآل الذي آلت إليه إنجلترا أو في كثير من المجتمعات لم يكن هذا ليحدث في فترة قصيرة؛ ففي البداية فقدت المصداقية، وفضحت كثيرا من الأمور والحقائق، وبالتالي أصبحت القوى السابقة غير قادرة على التأثير معنويا، وأصبحت الصورة القاتمة للأوضاع تفشل أية محاولة ظاهرية للتجميل.

ومثل هذا حدث لفرنسا عندما فقدت سلطتها المعنوية، فاشتدت سلطتها الأمنية لتعويض فقدان السلطة المعنوية، بينما النخب البرجوازية ظلت كما هي تمارس النفاق والتظاهر بالأخلاق حتى جرفها طوفان فقدان الثقة.

المصدر: صحيفة الشرق