ضغوط الحياة اليومية تجعل الفرد في تعامله مع الآخرين أحياناً يميل إلى استخدام كلمات جارحة تصنف ضمن العنف اللفظي، سواء كان سباً أو قذفاً أو ذماً، ولكن هذا ليس تبريراً منطقياً لعقلنة الأشياء؛ فالحوار أساس التعامل الإنساني، ولكن أن يصبح الشتامون ظاهرة فهذا ما لا تحمد عقباه، خاصة أن كثيراً من قضايا السب والشتم بدأت تنظرها المحاكم الجزائية حيث طالب مختصون قانونيون بضرورة توعية أفراد المجتمع بالنصوص القانونية التي تجرم الألفاظ النابية والإشارات والعبارات التي تحقر من الآخر أو تسبه بلون أو جنس على سبيل السخرية، وإظهار خطورة استخدامها، فجملة بسيطة هي كافية لجر أحدهم إلى المحاكم، وهو ما يحدث حالياً في أروقة العديد منها.
«البيان» تابعت بعض القضايا التي لا تزال منظورة واطلعت على تفاصيلها، وكان آخرها شتم سيدة لطليقها ووالد ابنها ونعته «بالحقير» فيما يحاكم رجل كبير في السن وابنه الشاب ويعملان في مجال تجارة المواد الغذائية لخدش حياء سيدة بعبارات غير لائقة، وقذفها باتهامات طالت أخلاقها وسلوكها، ومن القضايا التي استوقفتنا تهديد رجل لزوج زوجته السابقة، وتهديده بدفنه حياً، ووصفه بأنه ليس رجلاً.
ومن القضايا التي نظرتها المحكمة أيضاً تعرض أب للشتم من قبل ابنه وزوجة من قبل زوجها بعد عودتها متأخرة ليلاً بصحبة ابنتها وهي ألفاظ نترفع عن ذكرها. مختصون ومراقبون يرون أن تزايد هذا النوع من القضايا يعكس تردياً في مستوى العلاقات الاجتماعية والإنسانية، خاصة أن بعض هذه القضايا يمكن تفاديها دون اللجوء إلى القضاء، مؤكدين أن هناك حالة استسهال لممارسة العنف اللفظي نتيجة لسيل البرامج والفيديوهات العنيفة التي يشاهدها المرء يومياً وتؤثر في تكوينه وسلوكه، وطالبوا برقابة محكمة على ما يفدنا من ثقافة غريبة تؤثر خاصة على الجيل الناشئ بسبب تطور وسائل التكنولوجيا.
ووفقاً للمحامي علي مصبح فإن السب العلني يعتبر من الجنح طبقاً لقانون العقوبات الاتحادي، ولكن جريمة السب ربما بالرغم من سهولة ارتكابها وأنها لا تنتج إلا بوجود أثر سابق عن وقوعها كأن تكون هناك مشادة كلامية بين شخصين أو اختلاف في وجهات النظر، فيقوم أحدهما بسب الآخر في حالة غضب أو قهر أو انتقام، ولكن هذه الجريمة تؤثر سلباً على بعض العلاقات الاجتماعية لاسيما أن تكون ماسة بالعرض والشرف والأكثر من ذلك أن تكون هناك صلة قرابة بين الأطراف كالزوج وزوجته أو طليقته أو شقيقته، فتشكل نوعاً من التصدع في هذه العلاقات، وبالتالي تنتهي بهم إلى أروقة المحاكم.
أسباب نفسية
ويؤكد علي مصبح أنه قد تكون هناك أسباب نفسية أو اجتماعية تدفع المتهم لارتكاب مثل هذه الجرائم مثل دافع الانتقام أو أحياناً ضغوطات الحياة عند بعض الأشخاص وكثرتها وربما الابتعاد عن الاعتداء فيكتفي مرتكب جريمة السب بهذه المرحلة اعتقاداً منه بأنها تشفي غليله، وطالب المحامي مصبح بضبط النفس لأنه «مهم جداً» في كل المواقف ولجوء البعض إلى جريمة السب أو القذف لن يصلح شيئاً بل يزيد من حجم المشكلة ولذلك أبدى المشرع الإماراتي أهمية في جريمة السب والتي نص عليها في المادة (374) من قانون العقوبات الاتحادي والمعدل 2016 «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بالغرامة التي لا تجاوز خمسة آلاف درهم إذا وقع القذف أو السب بطريق الهاتف أو في مواجهة المجني عليه وبحضور غيره، وإلى بعض المواد التي تصل إلى الحبس لمدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد على عشرين ألف درهم، مطالباً بضرورة نشر الوعي الثقافي والقانوني لضبط السلوكيات في هذه الجرائم وإذا تعرض أي شخص لأي موقف بأن يلجأ للقضاء لأخذ الحق.
الأستاذ الدكتور أحمد العموش من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الشارقة يرى أن سبب انتشار هذا السلوك هو خلل في المنظومة القيمية التي ترتكز في الأساس على الأسرة التي بدورها تعاني من التصدع في المعايير، ولم يعد ثمة روابط اجتماعية، فقد اعتراها الضعف والتراجع نتيجة لتداخل مجموعة عوامل أبرزها الغزو الثقافي وغياب الإشراف الأبوي بشكل شبه تام وانتشار وسائل التقنية الحديثة، فأصبح لكل شخص مرجعتيه الخاصة التي يعود لها عند حل المشكلة. وأكد أن ازدياد وتيرة هذا النوع من الفعل يؤكد وجود ظاهرة اجتماعية تواجهها المجتمعات العربية، وأنه لا بد من بحث جدي لتحديد مواطن الخلل وإيجاد إطار أسري نحتكم فيه لحل المشكلات.
وسائل التواصل
وتعزو المحامية نادية عبد الرزاق ارتفاع سقف قضايا السب العلني إلى تطور وسائل التواصل وتنوع الثقافات في المجتمع سواء كان ذلك بالطريقة الاعتيادية في مواجهة الطرف الآخر وبحضور غيره أو عن طريق الهاتف أو النشر في إحدى الصحف والمطبوعات أو من خلال استخدام الشبكة المعلوماتية والأجهزة الذكية.
وتعتبر انتشار هذا النوع من الجرائم نتيجة لزيادة المشاكل والخلافات الأسرية، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى ضعف رقابة الأسرة على الأبناء وكذلك كثرة استخدام الأجهزة الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة (كتويتر وانستغرام وسناب شات وفيسبوك وواتس اب… وغيرها) بصورة سلبية خاصة لدى الفئة العمرية التي ترد بين الأحداث والشباب دون وجود رقابة محكمة على استخدام تلك المواقع، مما يعد مجالاً خصباً للتعرف إلى رفقاء السوء والدخول في مشاحنات ومناقشات قد تصل إلى الابتزاز في بعض الحالات بين الأطراف، الأمر الذي ينعكس سلباً على سلوك الأفراد في المجتمع.
وترى أن الإنترنت سلاح ذو حدين تغيب سلبياته عن بعض مستخدميه الذين أضحوا أداة تحركهم تلك الأجهزة كما تشاء لتصبح وسيلة لإدمان مستخدميها وتضحى أكثر تهديداً لهم من منفعة علمية في ظل استنزاف قدراتهم الذهنية والتأثير سلباً على سلوكياتهم وألفاظهم.
وشددت على أنه حق لمن تعرض لاعتداء لفظي يندرج تحت مفهوم السب أو القذف أن يشتكي مرتكب الجريمة للجهات الشرطية المختصة التي تقوم بدورها بعد التحقق من توافر الأدلة وثبوت التهمة بضبط المتهم وإحالته للنيابة العامة وإحالة الدعوى للمحكمة لنظرها وإصدار الحكم المناسب.
تعويضات مادية
وبحسب أيهم المغربي الباحث القانوني فإن زيادة جنح السب والقذف والسمعة والعرض نتيجة لرغبة الكثيرين في الحصول على تعويضات مادية فقط، فقد يشتكي البعض لأي سبب أو أي تلميح من أجل كسب تعويض مالي، مشيراً أيضاً إلى أن لجوء البعض إلى العنف اللفظي قد يكون مجرد انفعال لتأكيد قيمة نفسه للتأكيد أمام نفسه والناس أنه قادر أو مستطيع.
وزاد المغربي: إنه «يمكن أن يكون نقص الحوار والنقاش هو ما يؤثر في سلوك رفض النقد أو أسلوب النقد والاختلاف. فالمعتاد على الحوار بتقبل الآراء ويتعود على أسلوب التحاور والتعايش في ظل المجموعة، أما من يندفع في فضاءات المعرفة والثقافة الإلكترونية التي تشبع نزعة الفردانية لدى أشخاص تحجم من قدرة الشخص على تقبل مبدأ الاختلاف وتزيد من نزعة الحدة في ردود الأفعال والميل إلى استسهال العنف اللفظي لفرض الرأي الشخصي.
وبين أن «الجيل الحالي أكثر حدة من الجيل السابق وفاقد للتوجيه الأسري، حيث إن نقل العلوم والترفيه والمعارف إلى عالم افتراضي سحب مع الفرد إلى البحث عن موقع له في هذا العالم على حساب المجموعة»، مؤكداً أن «عالم المعرفة الجديد يشجع نزعة الوحدانية والتركيز على قيمة الفرد ويلغي من حساباته دور الجماعة.
الحوار أساس التعامل الإنساني
قالت ديالا حيدري المتخصصة النفسية في مدرسة الإبداع العلمي بالشارقة: إن استخدام الألفاظ النابية كالشتم – القذف- التحقير انتشرت كالنار في الهشيم والسبب الرئيسي هو التنشئة الاجتماعية الخاطئة في المنزل وعدم متابعة الأهل للأبناء وتوجيههم وتربيتهم التربية السليمة، حيث أصبح صراخ الوالدين الذين هم قدوة هو السبيل الوحيد لحل المشكلات كما وانعدم الحوار الإيجابي الفعال بين الأسرة الواحدة ومخالطة الأبناء للغرباء.
نصيحة
ونصحت بمتابعة الأبناء ماذا يفعلون في وقت الفراغ، ومن هم أصدقاؤهم ومعرفة ماذا يتابعون على مواقع التواصل الاجتماعي لأن هذا كله يعزز الجانب الأخلاقي عندهم، كما لفتت إلى دور المدرسة الذي يقضي فيه الطلبة معظم وقتهم ومنها يتشربون القيم، لذا لا بد من تعزيز دور المتخصص الاجتماعي في المدرسة وأن يكون له جلسات دورية مع الطلاب أساسها النصح والتوجيه.
المصدر: البيان