مهرجان برلين الدولي: دورة سينمائية غنية تبدأ برحلتين إحداهما في بلاد العرب

منوعات

هناك رحلتان طويلتان يعرضهما مهرجان برلين في دورته الخامسة والستين التي تنطلق اليوم، الخميس 5 فبراير (شباط) الحالي وتنتهي في السادس عشر منه. الأولى على الثلج والثانية في الصحراء. والرحلتان الشاقّتان من بطولة امرأتين: زوجة تريد الوصول إلى زوجها في القطب الشمالي، وامرأة تنطلق لتسبر غور هذه الكثبان غير المتناهية في قلب الصحراء العربية. كلاهما تلقى تحذيرا من خطورة رحلتيهما، لكنهما لم تباليا.
في «لا أحد يريد الليل» لإيزابيل كواكست حكاية امرأة اسمها جوزفين، وتقوم بها جولييت بينوش، تؤول على نفسها، سنة 1908 الانطلاق في أثر زوجها إلى الشمال البعيد. يحذّرها البعض من أن رحلتها ستكون شاقة ومليئة بالمحاذير، لكنها تقرر القيام بها على أي حال.

إنه فصل شتوي مثلج (ومهرجان برلين يحب الأفلام التي تصوّر الثلج كما حدث في أكثر من دورة سابقة عرض في كل منها أفلاما مغطاة بالبساط الأبيض) وجوزفين تجد نفسها تعيش مع امرأة من مواطني قبيلة ألاكا المستوطنين في تلك الصقاع. عمليًا هذه المرأة تنقذ بطلة الفيلم من الموت، وبالتدريج تكتشف الأنثى الفرنسية أنه لا يوجد فواصل تذكر بين الناس بصرف النظر عن مشاربهم وثقافاتهم. يفتتح «لا أحد يريد الليل» مشتركًا في مسابقة حافلة من بين أعمالها أيضا الفيلم الجديد للمخرج الألماني فرنر هرتزوغ «ملكة الصحراء». هذا الفيلم له تاريخ طويل بدأ قبل أربع سنوات عندما سعى هرتزوغ لتحقيق فيلم عن الرحالة البريطانية غيرترود بل التي كانت مؤلفة ومؤرخة وعميلة مخابرات بريطانية. الفترة الزمنية ليست بعيدة عن تلك التي في الفيلم السابق. فغيرترود عاشت حتى عام 1926 (توفيت عن 58 سنة) وقامت برحلتها في ربوع الشرق الأوسط في عام 1920 تاركة مذكرات منشورة.
رحلات المخرج هرتزوغ مشهودة ودائمًا صعبة بدءًا برحلته في فيلمه الشهير «فتزجيرالدو» لكنّ هناك طيفا رومانسيا في هذا الفيلم، كما يقول: «غيرترود اكتشفت عالمًا غريبًا عليها وتآلفت معه سريعًا. زارت مصر والعراق ومناطق أخرى وأمضت ردحًا تنتقل عبر الصحراء. إنها بيئة تختلف عن كل بيئة سابقة لأي من أفلامي».
أكمل: «حاولت استخدام الصحراء لكي أدخل ذات غيرترود كما فعلت دخلتها الصحراء ذاتها». الفيلم هو دعم جديد لمكانة ونجومية الممثلة نيكول كيدمان، التي كان مهرجان «كان» افتتح دورته الأخيرة بفيلمها «غريس أوف موناكو» الذي لم يحقق نجاحًا لا بين النقاد ولا بين المشاهدين. هذا الفيلم، ممهورًا باسم أستاذ سينما أوروبي، قد يعوّض ما لم ينجزه الفيلم السابق من مكانة.

مكانة
إنها الدورة التي قد تكون الأكثر تألقًا في تاريخ هذا المهرجان القريب على الأقل. ليس فقط أن هناك نحو 400 فيلم معروض في كل تظاهرات وجوانب المهرجان، بما فيها ذلك الجانب الكلاسيكي الشيّق بأفلام ألمانية نادرة هذا العام، بل أيضا بأسماء مخرجين لامعين ليس هرتزوغ سوى واحد منهم إذ هناك أيضا البريطاني كينيث براناه مقدّمًا فيلمه الجديد «سندريللا» والتشيلي بابلو لاران عبر «النادي» والبريطاني أيضا بيتر غريناواي الذي أنجز فيلمه الجديد «أيزنشتاين في غواناجستو» قبل أسابيع قليلة، كما الألماني فيم فندرز الذي يقدم آخر أعماله «كل شيء سيكون على ما يرام».
كما أن هناك الفيلم المنتظر لترنس مالك وعنوانه «نايت أو كابس» (Knight of Cups)، (وذلك تبعًا لورق اللعب حيث الفارس «كوبّة» كما يقال بالعامية يحتل مرتبة عالية في ترتيب أوراق اللعب).
لن يجدي نفعًا كثيرًا إذا ما قمنا بسرد الأفلام والتظاهرات لمجرد ذكرها. كل منها يعد بأن يكون مفاجأة ولو محدودة. هناك اشتراكات عربية بعضها خارج المسابقة وبعضها الآخر خارج – خارج المسابقة أما المسابقة ذاتها فهي مستعصية. يتذكر المرء أيام ما كان بعض المخرجين العرب قادرين على التسلل إلى ذلك المحيط الصعب كما فعل المصري يوسف شاهين والمغربي سهيل بن بركة بين قلّة آخرين في الستينات والسبعينات.
رحلة المهرجان ذاته هي الأكثر تشويقًا من أي فيلم في البال.
هو ثالث أكبر المهرجانات عمرًا إذ يحتفي مهرجان «كان» هذا العام بمرور 68 سنة على إقامته، بينما يدخل مهرجان فينيسيا دورته الـ72 في سبتمبر (أيلول) المقبل. لكن تقييمه ثالثًا، أو حتى ثانيًا، بين هذه المهرجانات المذكورة ليس عادلاً.
بطبيعة الحال يقف «كان» في المقدّمة كونه الأكثر جذبًا وضجيجًا وكونه لا يخلو بالطبع من أفلام رائعة يؤمّنها له مخرجون ومنتجون باتوا زبائن مداومين. لكن في حين أن مهرجان فينيسيا الإيطالي يجد نفسه دوما آخر الصف نسبة لمواعيد إقامة كل مهرجان، ووسط منافسة حادّة من تورنتو، وعرضة لقبول أفلام ليست دائمًا مشهود لها بالتفوق، فإن برلين يحتل المركز الثاني في الأهمية وله أصابع قدم راسخة في الصف الأول أيضًا.

جغرافيا وتاريخ

مشكلة «كان» الأبدية (التي قد لا يراها القائمون عليه مشكلة) هي أنه يختار أفلامه من تلك التي تنتجها الشركات الفرنسية أو تساهم في تمويلها. هذا يحد من التنوّع المفترض، وبالتالي من الإسهامات الأخرى التي قد تكون بحوزة مواهب سينمائية تحاول الاشتراك. المنوال المثابر هو أن تتقدم الشركات الفرنسية («وايلد بانش»، «MK2»، إلخ) بالأفلام التي تود لها الاشتراك. المهرجان يشاهد ويختار من بينها، وقلّما يختار من خارجها. إن فعل فبنسبة محدودة بغاية التنويع واستقطاب اسم كبير إضافة لما لديه.
يدخل في هذا النطاق أفلام معظم المخرجين غير الفرنسيين الذين اعتادوا على التمويل الفرنسي كما الأميركي جيم جارموش والتركي نوري بيلج شيلان و(سابقًا) أفلام يوسف شاهين التي عرض منها عدد كبير على شاشة المهرجان الفرنسي.
طريقة برلين في سبر غور هذا الـ«بزنس» مختلفة. إنه يختار ويفتح ذراعيه على وسعيهما لاستقطاب الأفلام من دون تفضيل قائم على التسويق. لذلك قد نجد فيه إمكانية تنوّع في الأعمال المشاركة كجهات إنتاجية كما كأسماء مبدعين.
لذلك أيضا يدافع عن منواله بذكر أسماء الدول التي تنتمي إليها الأفلام المنتخبة، في أي قسم لها. كون مهرجان كان مرتبطا بآلية الشركات الفرنسية المساهمة في التمويل قد يكون السبب الرئيسي الذي من أجله امتنع، ومنذ سنوات بعيدة، عن ذكر الدول التي تنتمي إليها الأفلام المشاركة لأنه لو فعل فإن غالبها سيحمل اسم فرنسا ما يمنح الاختيارات لونًا مغايرًا لما يراد منها.
مهرجان برلين مثل كرة ثلج بدأت تتدحرج من عام 1951 عندما أقيم للمرة الأولى. في بيان «الجمعية الفيدرالية الدولية للمنتجين» كان الهدف المعلن هو الاحتفاء بالأفلام كفن رفيع. البيان الأول ذكر: «كل أفلام المهرجانات عليها أن تسهم في إحياء تفاهم بين الأمم وتدعم تطور الفن السينمائي وصناعة الفيلم».
الدورة الأولى في ذلك العام عرضت 23 فيلمًا من بينها نسخة من فيلم «سندريللا» كما حققها الأميركي ولفرد جاكسون. من المثير مشاهدتها اليوم في مقابل نسخة كيثيث براناه التي أنتجتها «ديزني» والمشتركة في مسابقة هذا العام. كان هناك الكثير من الأفلام الألمانية (الغربية كما كان الحال آنذاك نسبة للانقسام بين الشرق والغرب)، لكن السينمات البريطانية والسويدية والإيطالية كما الأميركية كانت حاضرة. والجوائز أيامها كانت منقسمة (كالغولدن غلوبس الآن) إلى دراما وكوميديا وفوقها أنواع أخرى. مثلاً في حين فاز الفيلم السويسري «أربعة في سيارة جيب» (لليوبولد لندربيرغ) بذهبية أفضل فيلم درامي (تناول أربعة جنود من أربع دول من الحلفاء في أزمة ثقة) فاز «وادي السناجب» للأميركي جيمس ألغر بذهبية أفضل فيلم تسجيلي، في حين خرج الكوميدي الفرنسي «بلا عنوان» لجان – بول لو شانوا بذهبية أفضل فيلم كوميدي، وهكذا.
المصدر: برلين: محمد رُضا – الشرق الأوسط