كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة
قد تطوي الشعوب صفحة الذين يذلونها ويهينونها، لكنها لا تنسى أبداً ما ارتكبوه في حقها من جرائم في مراحل معينة من التاريخ، حتى لو ذهبت تلك المراحل إلى غير رجعة، وغدا من الصعب إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، واستنساخ تلك الحقب المظلمة من التاريخ.
في العاصمة الهنغارية «بودابست»، احتفظ الهنغاريون بجزء من التاريخ الدموي للنظامين النازي والشيوعي، اللذين تعاقبا على احتلال هنغاريا في أربعينيات القرن الماضي، وذلك من خلال متحف أطلقوا عليه اسم «بيت الرعب». في هذا المتحف، يتجسد حجم الظلم والقهر اللذين تعرض لهما الشعب الهنغاري على يد هذين النظامين الدمويين، كما تتجسد المعاناة التي عاشها هذا الشعب المحب للحياة.
أمام المبنى ينتصب جدار من السلاسل الفولاذية الكبيرة، في رمزية تشير إلى الغرض الذي استُخدِم من أجله هذا المبنى، وفي وسط المبنى، تستقبلنا دبابة من طراز T34 سوفييتية الصنع، غارقة في حوض من الدم، تنتصب خلفها جدارية ضخمة تحمل صور الضحايا الذين استضافهم المبنى خلال تلك الحقبة السوداء من تاريخ هنغاريا.
وخلافاً لكل المتاحف التي يمكن أن نراها، تبدأ الجولة من الطابق الثاني للمتحف، وتنتهي بقبو تحت الأرض، يخرج الزائر منه وقد وصلت إليه الرسالة التي أراد الهنغاريون أن يرسلوها إلى أبنائهم، وإلى كل شعوب الأرض التي يؤم الملايين منها هنغاريا كل عام، ويحرص الكثير منهم على زيارة «بيت الرعب»، باعتباره واحداً من أهم الأماكن التي تستحق الزيارة في العاصمة الهنغارية.
«استُخدِم هذا المبنى، في ثلاثينيات القرن الماضي، مقراً للحزب الهنغاري النازي، المعروف باسم إيروكروس. وعندما سيطر النازيون في خريف عام 1944، قاموا باعتقال وتعذيب وإعدام ضحاياهم هنا».
هكذا يبدأ أحد المسؤولين عن المتحف حديثه في تقرير تلفزيوني عن «بيت الرعب»، الذي يُعدّ واحداً من المتاحف القليلة في العالم التي توثق لجرائم الاعتقال والتعذيب والإبادة التي ارتكبتها بعض الأنظمة ضد شعوبها أو الشعوب التي احتلتها، مذكرة بتلك الفترات الصعبة التي عاشها أولئك البشر، والتي يجب أن تتخلص منها الإنسانية، دون أن ينسوا أنها صفحات سوداء، لطخت وجه البشرية جمعاء.
«بعد حصار القوات السوفييتية للمدينة، وانسحاب القوات النازية منها، وسيطرة القوات السوفييتية عليها في شتاء عام 1945، سيطرت على المبنى، الشرطة الشيوعية، وجعلته مركزاً لإرهاب الشعب الهنغاري، حتى قيام الثورة عام 1956.
لذا، فإن لهذا المبنى معنى تاريخي قاسٍ، وقد قررنا افتتاح هذا المتحف هنا بالذات، لتطهير المبنى من ذنوب الماضي بشكل ما». يواصل المسؤول حديثه.
في الطابق الثاني من المتحف، الذي تبدأ منه جولة الزائرين، يجري استعراض تاريخ النظامين النازي والشيوعي، اللذين احتلا هنغاريا وأذلا شعبها، حيث تنقسم غرفة العرض إلى قسمين، أحدهما باللون الأسود، الذي يرمز للنظام النازي، والثاني باللون الأحمر، الذي يرمز للنظام الشيوعي.
وفي القسمين يتم عرض أفلام وثائقية عن الفظائع التي ارتكبها النظامان في هذا البلد، ومنها فيلم يوثق اتفاقية عدم الاعتداء التي وقعت بين النازيين والسوفييت عام 1939، واقتسموا من خلالها وسط وشرقي أوربا.
«بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فرضت قوات الاحتلال السوفييتي سيطرتها على النظام السياسي الداخلي في هنغاريا، وكانت ستقام انتخابات حرة في البلاد، لكن الحزب الشيوعي غش في الانتخابات.
وعلى الرغم من أن الشعب الهنغاري صوت ضد الحزب، وضد إرادة السوفييت، إلا أنهم استطاعوا السيطرة على الحكم خلال عامين فقط، واستمرت الحكومة في تنظيم انتخابات يمكن للناخب فيها أن يصوت لخيار واحد فقط، وكانت المشاركة في تلك الانتخابات إجبارية بشكل من الأشكال. لذا، فقد كانت نسبة التصويت للحزب الشيوعي تصل إلى 95 % أو 98 %». يواصل المسؤول حديثه.
في الطابق الأول من المتحف، يشاهد الزائر معاناة الشعب الهنغاري خلال فترة سيطرة الاتحاد السوفييتي على الحكم في هنغاريا، مثل سياسة إعادة التوطين، التي طرد خلالها الناس من بيوتهم، واضطهاد الفلاحين الذي تسبب في في ترك حوالي 300 ألف هنغاري مزارعهم، الأمر الذي أدى إلى حدوث مجاعة واسعة في البلاد خلال خمسينيات القرن الماضي.
ورغم هذا كله، كانت الدعاية الشيوعية تصور للعالم، أن الحياة في هنغاريا بهيجة زاهية الألوان، في حين أن كل شيء فيها كان يغرق في السواد.
«أرادت الدعاية الشيوعية اختراق الحياة الشخصية للمواطنين، وكانت تتعامل بشكل حرفي مع كل شيء على أنه خطاب سياسي. فإذا تأخرت عن عملك قليلاً، على سبيل المثال، اعتُبِر ذلك عملاً تخريبياً مستوحى من الرأسمالية». يقول مسؤول المتحف في التقرير التلفزيوني.
في قبو المبنى، تتجسد المأساة الحقيقية، حيث تنتشر الزنزانات الضيقة، التي كانت أجهزة الأمن تكدس فيها المعتقلين من المعارضين. وفي القبو نشاهد أيضاً غرفة الاستجواب الصغيرة، وبعض السجلات القديمة، كما نشاهد غرفة الإعدام، حيث تنتصب المشنقة التي أعدم بواسطتها المعارضون الذين شاهدنا صورهم على ذلك الجدار، الذي يشكل خلفية للدبابة الغارقة في الدم.
«في النهاية، لا يوجد نظام بشري يمكن أن يستمر إلى الأبد، فقد انهار النظام الاستبدادي، لتبدأ مرحلة الانتقال الديمقراطي». بهذه العبارة، يختم مسؤول المتحف حديثه.
في الطريق إلى الخارج، يودعنا تمثال لامرأة تمسك بيدها أفعى لتقتلها، في إشارة إلى أن إرادة الشعوب كفيلة بالقضاء على الأنظمة الاستبدادية، بينما تطالعنا على جدارية السلاسل الفولاذية أمام المتحف، لوحة مكتوب عليها «لقد عذبتنا وأهانتنا.. وفي النهاية أسقطناها».
المصدر: البيان