مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان
قد تكون هذه القصة جيدة كبداية: «اتخذت مكاني على طاولة المطعم، فنهضت المرأة العجوز البيضاء عن الكرسي المجاور في الحال. ألا تحتملين الجلوس إلى جانب رجل أسود؟ قلت لها هازئاً، «سيدي العزيز» قالت: «يجب ألا تكون شديد الحساسية بهذه الدرجة، كيف لي أن أعرف لونك؟» آنذاك، رأيت لون العصا التي تحملها، كانت بيضاء».
ليست الحساسية فقط ما جعل الرجل يسيء الظن بالسيدة (الكفيفة)، لكنه الاعتداد بالرأي أو بالفكرة المتوارثة، الفكرة التي نراكمها حول الآخرين، فلأنه «أسود» يعتقد الرجل بأن أي شخص «أبيض» سيستنكف الجلوس معه على الطاولة نفسها، في الوقت الذي غادرت فيه المرأة مكانها لسبب آخر تماماً، هي لم تبصر ما إذا كان أبيض البشرة أو أسود، لكنه هو المبصر لم يعرف أنها كفيفة سوى من لون العصا!
إن سوء الظن لا يقل رعونة عن سوء الفهم، على الأقل من ناحية نتائجه، في الموروث غالباً ما نجد إشارات وتوجيهات بتجنب هذه الصفة (إساءة الظن)، مع ذلك فهناك من يدافع عنها باعتبارها تحميه من الوقوع في المصائد التي توقع بأصحاب النوايا الطيبة، إساءة الظن بالنسبة للبعض إذن، نوع من الحماية.
لكنها الحماية التي تشبه ارتداء درع حديدية دون مبرر، أو ارتداء خوذة رأس في يوم قائظ والتنزه بها أمام الناس، نحن لسنا في حرب كي نجاهر الناس بسوء الظن احتياطاً من شرور محتملة، فماذا إن لم يكن هناك شرور من الأساس، سألت أحد أصحاب مذهب سوء الظن، فأجاب: أكون قد حميت نفسي!
للأسف، نحن نتمترس حول أفكار تشبه الدروع الفولاذية، ونحتمل الوحدة والهجر والقسوة وبعد الأصحاب عنا بسبب (إساءة الظن)، وللأسف، نحن نتربى أحياناً على ذلك دون أن يقصد أهلنا زرع قيم سلبية فينا.
لكنهم حين يخوفوننا من الرجال ليحمونا، ومن الغرباء كي لا نقع في شراك الاستغلال والنصب، ومن شرطي المرور لنواصل الانصياع لأوامره، ومن الطبيب ومن الجنيات ومن الظلام، ومن أشياء كثيرة، فما الذي يراكمونه فينا؟
إن خدوشاً كثيرة تحدث تحت الجلد وداخل العقل، كما أن كسراً حقيقياً يصيب الذات في علاقتها بمن حولها، نصير (شكاكين) وغير قادرين على حماية أنفسنا بأنفسنا من كل هذه المخاوف وبشكل علني وطبيعي، ما يجعلنا نهرب للشك دائماً، والنظر لمحاولات الآخرين الاقتراب منا بسوء نية باعتبارهم كذبة ونصابين ولديهم مآرب أخرى، إن هذه الآليات لا تحمينا، ولكنها تحولنا إلى كائنات مسكونة بالرعب وعدم الثقة والخوف من الاستلاب والوقوع في الكمائن!
أجد كثيراً من الرجال وحتى النساء، يعيشون علاقات استلاب تجاه من يتعلقون بهم، متحولين تدريجياً إلى كائنات مستَغلة على الدوام، دون أي رغبة أو مقدرة على الرفض، لأن عقلاً مميزاً وقادراً على التفريق بين الحب والاستغلال لم يرب فيهم، ولم ينمُ في داخلهم منذ الصغر. إن الترهيب والتخويف وزرع الشكوك لا تنتج سوى شخصيات مهزوزة على الدوام!
المصدر: البيان