العربية بين جدلية الهوية وأفق الكونية

آراء

خاص لـ هات بوست:

     تشغل اللغة العربية موقعًا متميزًا في البنية الجمالية والثقافية للإنسانية، حيث تتجاوز وظيفتها التواصلية لتُشكّل نظامًا دلاليًا وجماليًا فريدًا؛ فمن الناحية التاريخية، مثلت العربية وعاءً لحفظ التراث الفكري والأدبي والعلمي، فهي لغة القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين، لذا أسهمت مفرداتها الغنية وتراكيبها البلاغية المعقدة في صياغة وعي جمالي قائم على الإيقاع الصوتي والدقة التعبيرية والعمق الدلالي. وقد تجلّى هذا في النصوص المؤسسة من شعر جاهلي ونصوص دينية وفلسفية، حيث أصبحت العربية لغةً حاملةً لمنظومة قيم جمالية وأخلاقية معًا.

فليست اللغة العربية مجرد أداة اتصال؛ بل هي وعاء حيوي للفكر والجمال، وحاضنة للإبداع الإنساني عبر العصور، إذ تمتلك نسيجاً لغوياً فريداً يجمع بين البلاغة والإيجاز، ويستوعب -أيضاً- أشكال التعبير المعاصرة في الرواية والشعر الحديث والإعلام والفنون البصرية والرقمية، وظلّت قادرةً على استيعاب مستجدات العصر عبر عمليات توليد المصطلحات وتكييف البنى النحوية، مما يفتح آفاقاً جديدة لإحياء جمالياتها في الفضاء الإلكتروني، وتعزيز حضورها في المشهد الثقافي العالمي.

وحين نتأمل في اللغة العربية من زاوية فلسفية حضارية، ندرك أننا أمام ظاهرة تتجاوز حدود اللسان إلى فضاء الفكر والوجود، فهي ليست مجرد وسيلة لتوصيل المعنى أو تبادل الخطاب، وإنما منظومة جدلية تحمل في طياتها تناقضًا خفيًا بين وظيفتها بوصفها أداة وظيفية، وبين قدرتها على أن تكون قوة ميتافيزيقية مولّدة للوعي، هذا التناقض لا يُفهم إلا في إطار الصراع بين ما هو ظاهر –التواصل المباشر– وما هو باطن –التشكيل العميق لطرائق التفكير، ومفاهيم الحقيقة، والهوية، والزمن.

وقد شهد التاريخ العربي الإسلامي كيف ارتقت العربية من لغة الشعر والبيان إلى وعاء للفلسفة والعلم والتشريع والتأمل الوجودي، فأضحت جزءًا من البنية التحتية للوعي الإنساني، لا مجرد وسيط للتفاهم، ومن -هنا- فإن البحث في العربية بوصفها منظومة حضارية يستدعي الوقوف عند إشكالية مركزية: هل نحن نستخدم اللغة العربية، أم أن اللغة هي التي تستخدمنا لتعيد إنتاج وعينا وتصوغ وجودنا في أفقها الرمزي؟ هذا السؤال هو المدخل لفهم التحول التاريخي والفلسفي الذي جعل العربية من أداة للتواصل إلى نظام لتشكيل الوعي الإنساني.

واللغة العربية اليوم تواجه تحديَين متلازمين: الحفاظ على جمالياتها التقليدية وتطوير أدوات تعبيرية معاصرة، رغم ضغوط العولمة والحداثة آخر صيحات التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، ومعالجة اللغة الطبيعية بوصفها مجالاً حيوياً لتجديد حضورها الرقمي.

ومستقبلا يمكن للعربية أن تعزّز مكانتها عبر تبني مقاربات تشاركية بين التراث والحداثة، حيث يصبح تطوير المناهج التعليمية مرتكزاً إلى اللسانيات الحاسوبية، ودعم الإبداع الأدبي الرقمي، مدخلًا لضمان استمرارية تأثيرها الجمالي.

وقد أثبت التاريخ أن العربية لم تكتفِ بدور الناقلة، بل صارت صانعة للمعرفة، حافظة للهوية، ومولِّدة لوعي حضاري يحدد موقع الإنسان من الحقيقة والزمان والقداسة، ومن الواضح أنها تتحرك في جدلٍ دائم بين الظاهر كأداة، والباطن كمنظومة لتشكيل الوعي، لتصبح ساحة يتقاطع فيها النفعي بالمعنوي، والبراغماتي بالفلسفي، والبسيط بالميتافيزيقي.

وتظل العربية نظامًا مفتوحًا على التحولات، قادرًا على إنتاج خطاب جمالي يتجاوز البُعد الجمالي ليغدو أداةً في صياغة الوعي الحضاري، فهي ليست مجرد وسيلة للتعبير أو وعاء للتقاليد، بل فضاءٌ إبستمولوجي يتقاطع فيه التراث مع آفاق الحداثة، ومن هذا المنظور، تتحوّل اللغة إلى مجالٍ جدلي، إذ تُحاصرها ثنائية التقديس بوصفها إرثًا، والتجاوز بوصفها إمكانًا، فتغدو ساحةً لفعلٍ فلسفي يوازن بين ثبات الهوية وانفتاح الكونية.

إنّ حضورها في سياق العولمة لا يُختزل في الدفاع عن الذات أو التماهي مع الآخر، بل يقوم على إنتاج خطاب يرسّخ جدليّة الانتماء والاختلاف، ويعيد تعريف العربية بوصفها قوة تأسيسية للفكر، قادرة على أن تبلور مفاهيم جديدة حول الزمن، والهوية، والمعرفة، ضمن سيرورة إنسانية لا تنفكّ عن إعادة اكتشاف ذاتها.