غني عن القول ان غشاوة تحيط، في نظر البعض، بفهم التحولات العميقة في العالم العربي. وهناك من يتردد في الإعتراف ان تاريخاً جديداً يصنع في بلادنا. وبطبيعة الحال، تبقى اسئلة كثيرة بلا اجوبة ومشكلات عالقة لا حل بسيطاً لها.
ويدعو تنوع الخيارات الكثيرين الى التروي والانتظار قبل الجزم في أمر المستقبل، لكنه لا يدعو الى الإستقالة الأخلاقية من الحكم على المواقف، لا سيما في سورية. وليس السكوت عن الظلم والقمع النازلين بالشعب السوري مبرراً بحجة الإقرار ان وقتاً سيمضي قبل ان نصل الى صيغ وتدابير سياسية واجتماعية توفّق بين التوق الى الحرية وطلب الديموقراطية من جهة والحاجة الواقعية الى توازنات ملائمة تحفظ وحدة مجتمعاتنا وتغتني بتنوعها.
ومهما يكن من أمر الإختلاف في التحليلات والمشاعر والمواقف السياسية فإنه لا يعفي احداً، وإن متردداً او قلقاً، من المسؤولية الأخلاقية تجاه الثورة على انظمة الإستبداد والقهر. صحيح ان هذه المسؤولية لا تجيب على كل التساؤلات القلقة، عند المسيحيين خاصة. الاّ انها تحفظ اصحابها اوفياء لأنفسهم ولدعوتهم الإنسانية، وتقيهم من الوقوع فريسة التخويف. فلا يجازفون بدورهم المشارك في عملية شاقة تبني المستقبل وتعي ان ما نشهده اليوم ليس آخر المطاف بل أوله.
ولعلّ قلق القلقين من احتمالات المستقبل، وتأثير مهندسي التخويف من ورائهم، يدفعان البعض الى الخيبة المستعجلة من وعود الثورات الشعبية. فتجنح فئة من القلقين الى البكائيات الأقلوية. فتزيدها قلقاً بل تفجّعاً لا يغيّر في الواقع شيئاً، اللهم الاّ انكفاءً متزايداً لأصحابه وهامشيّة أكبر. وتلجأ فئة أخرى، على جاري عادتها أو تقليداً لسواها، الى خطابيات المؤامرة والممانعة. ويصعب على هذه الثنائية تفسيّر محرّكات التغييرات الكبيرة، فلا ينجو القائلون بها من الحرج او الإرتباك، لا سيما عند التباس الحالات وامام ازدواج المواقف واختلاط الأدوار.
والخيبة المستعجلة اثنتان. خيبة من فعل ما فرضته الظروف القاسية التي امتحنت الحركات الشعبية واعاقت قدرتها على الإمتناع عن ممارسات لا تتفق مع تطلعاتها والوسائل التي تنسجم معها، والتي اعتمدتها لوقت غير قصير بعد ان فاجأت انظمة الإستبداد وجاءت، في سرعتها وقوتها المعنوية وجرأتها، اعلى من توقعات رافضي الطغيان انفسهم. اما الخيبة الأخرى فهي التي اصطنعتها مبالغة انصار المستبدّين، من رحل منهم ومن لا يزال متشبثاً ببقائه، في تضخيم مشكلات المراحل الإنتقالية، وتقبيح وجوه قادتها، وشيطنة الإسلاميين منهم، وفي مقارنات بين اوضاع لا تحتمل المقارنة.
بطبيعة الحال ليس من غرابة في الخيبتين، خيبة الأبرياء وخيبة الخبثاء من ورائهم، الذين ينذرونا مرة بعد المرة بأن مطلب الديموقراطية، سيجلب عند تحقّقه انظمة أسوأ من التي قامت الثورات ضد تعسفها. غير ان احترام الأولى ووعي مخاطر الثانية يدفعاننا الى تجديد الإعتراف بما هو معروف، اي ان القلق يصيب الجميع في مراحل تغيير السلطة والإنتقال الى نظام جديد، فإن الآتي ليس جليّاً، والثورات محاطة بالمحاذير وحبلى بالفرص المتعارضة، وموازين القوى التي تظهر فيها متبدّلة ولا تستقر على حال، قبل قيام النظم الديموقراطية وبعده. ولا يغني الإعتراف بالقلق المشروع عن النظر النقدي فيما يثيره او يغذّيه، عنيت به التفسير التعميمي والنهائي لبعض الوقائع ذات السياقات المختلفة.
واذا كان صحيحاً ان صعود بعض القوى السياسية والدينية واتساع نفوذها او حيازتها على الشرعية الديموقراطية يعزّز الميل الى النظر في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين وكأنها محض علاقات بين أكثرية وأقلية، فإن شرط بناء الشراكة في المواطنة هو السعي الى تجاوز هذه الثنائية. وان كثرة من المسيحيين العرب، على اختلاف انتماءاتهم الكنسية واتجاهاتهم السياسية والفكرية وفي مدى تاريخهم المعاصر، لم تر نفسها على الدوام بصورة أقلية يأسرها الخوف من الأغلبية ويتحكّم بسلوك عدائي ضدّها، يستعين بقوى خارجية تارة وبتحالفات داخلية طوراً، بين أقليات تواجه الهيمنة أو تحاذر مخاطر الهامشية.
التزام دولة الحق
صحيح ان المسيحيين العرب، من حيث هم أقلية دينية، حافظوا على هويات لهم خاصة وعانوا حرمانهم من بعض حقوق المواطنة، ولو انهم في مرات كثيرة، بل في أغلبها، تساووا مع مواطنيهم المسلمين في هذا الحرمان. لكنهم في كل حال عملوا مع سواهم، منذ اواخر القرن التاسع عشر، من أجل الاّ يُحجر عليهم في شخصية جمعية واحدة وأقلوية تجعل منهم بمثابة جماعة اتنية صلبة او شبه قومية. وصحيح ايضاً ان عدداً منهم عرف توتّراً بين هموم الأقلية وتطلعات الأغلبية. غير ان النخب الدينية والفكرية، وبعض النخب السياسية، اختارت ان تبدّد هذا التوتّر من طريق التزام قضية الحريات للجميع والدفاع عن سائر حقوق الناس كلهم وتعزيز المواطنة وبناء دولة الحق.
واياً يكن أمر الصعوبات والإخفاقات التي عرفها المسيحيون، لجهة تناقص اعدادهم النسبية وتراجع ادوارهم، لا سيما في السياسة والثقافة، وتعرّضهم لضغوط او مضايقات، فإنهم لم يقعوا جملة في اسر الثنائية بين الأقلية المنكفئة والأغلبية الطاغية. بل ان مشكلات المسيحيين كانت بمعظمها تعبيراً عن مشكلات المجتمعات العربية كلها، ما يتصل منها بالمساواة والمشاركة السياسية او ما يختص بالتنمية والنهوض الثقافي. ولم يغب ذلك عن عدد كبير من رعاة الكنائس المسيحية ونخبها الدينية والثقافية، كما تبّينه كتاباتاهم ووثائقهم الكنسية ونداءاتهم، فضلاً عن ممارسات مؤسساتهم التربوية والإجتماعية وغيرها من الهيئات التي تعنى بما يُعرف تحت مسمّى الشهادة المسيحية او الحضور المسيحي.
وفي الحقبة المعاصرة، تكاد لا تجد نصاً مسيحياً ذا صفة مرجعية يضع ما صار يدعى هواجس الأقلية في تناقض مع توجّهات الأغلبية، اذ لم يؤد تزايد القلق عند فئات من المسيحيين، أأفصحوا عنه جهاراً ام كان مدار همس بينهم، الى جنوح المسؤولين الروحيين باتجاه التخويف. بل جاء الإهتمام به في صورة دعوة الى مصارحة لا تضع المسلمين والمسيحيين في كتلتين متراصتين ومتواجهتين. ولم يتردّد هؤلاء المسؤولون في سلوك الطريق، الضيّق احياناً، بين التهويل بحراجة اوضاع المسيحيين وبين الإستهانة بها والتأكيد على الصفة العابرة لتلك الأوضاع المتسببة بالقلق. واجتنبوا التفسيرات التآمرية عن إفراغ العالم العربي من مسيحييه التي، فضلاً عن خفّتها واستخفافها بالعقول، تدفع المنقادين وراءها الى العزوف واجترار مرارة الخيبة او الى تبنٍ لفظي للغة الخطابة شبه الوطنية القائلة بالتصدي بالكلام لخطة مفترضة تعمل لتفتيت العالم العربي.
هذه المواقف المتعاقبة والمنسجمة التي عرفناها في العقود الماضية، وقبلها مساهمات المسيحيين في حركة النهضة العربية منذ اوائل القرن الماضي، لم تفقد معناها، ويرى البعض انها تستحق ان تستعاد وتتجدّد في زمن التغيير العربي الكبير. فلا يقع المسيحيون، او بالأحرى يوقعون، في اقلوية عقيمة ومعطلة لدورهم في الإسهام بهذا التغيير. فالمسيحيّون مواطنون ليس بالضرورة متشابهين في خياراتهم، وليسوا جمهوراً يسير صفوفاً وراء زعيم أوحد. والمسلمون متعددو الاتجاهات وليسوا بمعظمهم اسلاميين، والإسلاميون منهم متنوعون ولا يمكن وصفهم جملة بالتشدد من دون تمييز بين كثرة لا تقول بالعنف وقلة تتوسّله. والتمييز هذا أمر بديهي. بيد ان ما نسمعه، هنا وثمة، يؤكد لنا ان بداهته لا تعفينا من تكراره.
والحديث اليوم عن تراجع ادوار المسيحيين متصل اتصالاً وثيقاً بضعف دولة الحق، ومعها المواطنة والمساواة. لكن الرد على تراجع الدولة والمواطنة لا يكون إلا في التمسك بالدولة وبتأكيد المواطنة، بديلاً من اعادة اختراع عصبيات واحقاد جديدة. والمواطنون أشخاص وليسوا مجرد أجزاء من جمهور مفترض يتكوّن بقوة العداء لجمهور آخر أو الخوف منه. ولا يحفظ المسيحيين من انحسار أدوارهم ذاك التحوّل على غرار سواهم إلى جمهور يسير وراء قائد يحسب نفسه ملهماً، بل على العكس من ذلك، فإن ممارسة الزعامة القائمة على تعزيز التماثل والمجانسة والضيق بالرأي المخالف، غالباً ما تحتمل المجازفة بمصائر المسيحيين، وان باسم الدفاع عن حقوقهم، ذلك أنه يرهن هذه المصائر، وان بصورة جزئية، لخيارات قادتهم السياسيين وتقلباتهم وأخطائهم.
ولعلّ المسيحيين يحتاجون إلى نخب تقودهم بدل أن تسودهم. والقيادة تعني فتح المسالك المتعددة أمامهم، وتعني أيضاً ألا يدفع الخوف من المستقبل أفراداً من هذه النخب كثيرين إلى أن يُستتبعوا لأنظمة الإستبداد طائعين مختارين. فينسون انها كثيراً ما اخافت المسيحيين وخوّفتهم من مواطنيهم مرة، وأظهرت نفسها مدافعة عنهم ومطمئنة لهم مرة أخرى. وعلى هذا النحو، أخضعتهم بعد تعظيم خوفهم واستدعت ولاءهم بحجة حمايتهم كأقلية من طغيان الأغلبية.
واليوم، يتّصل، بل يختلط، الحديث عن الحاضر والمستقبل بقراءة الماضي. وليس مردّ ذلك إلى أنّ اليوم وغداً يشبهان الأمس جملة ولو اختلفا عنه تفصيلاً، بل لأنّ العودة إلى الماضي، بعين المؤرّخ أو سواه، تحكمها، وإنْ بنصيب متفاوت، هواجس الحاضر وهموم المستقبل. فلا يجازف أحد بالاستشراف إلاّ بعد تدبّر أمره مع التاريخ. ولعلّ هذا يظهر بجلاء حين يتعلّق الأمر بجماعة تضع هويّتها ومصيرها تحت السؤال. غير ان ذلك لا يعني الإحجام عن اختيار جانب الأسئلة والدعوة إلى مناقشة الفرضيّات على نحو لا يضع المسيحيّين والمسلمين في صفّين متقابلين. ولعل الأسئلة تضمر نقداً لموقفين رائجين، يُطيِّب الأوّل خاطر القلقين على الوجود المسيحيّ فيما يُنذر الثاني بكارثة اندثارهم، وينظر كلاهما إلى المستقبل بعين الذكرى.
فدعاة الأول يرون الغد على صورة الأمس ما خلا بعض الفروق التفصيليّة، ويؤكدون أنّ بقاء المسيحيّين في المشرق العربيّ وحفاظهم على قدر ما من الحيويّة واستعادتهم إيّاها، رغم تقلّبات التاريخ ومنها العاتية، دليل، بحدّ ذاته، على إمكانيّة استمرارهم. أمّا أهل الثاني فيتوسّلون التاريخ في قراءة تحجر على المسيحيّين في تعارض نوازع الأغلبيّة المتكاثرة مع حقوق الأقليّة المتناقصة، لتصل إلى نعي مستعجل لهم، آسف في الغالب أو مشفق عليهم. لكنّ إعلان اضمحلالهم الوشيك لا يخفي، عند نفر من هذه الفئة، الشماتة بالمسيحيّين وتحميلهم القسط الكبير من المسؤوليّة عن «بئس المصير».
وكثيراً ما نجد أنفسنا أمام هاتين المقاربتين المتعارضتَين تفسّر كلّ منهما، على طريقتها، الأرقام والوقائع والأحداث في سياق أوسع مدىً وأطول زمناً من الذين تتحكّم فيهم حسابات السياسة المباشرة وخصوصيّات البلدان وموازين القوى فيها. بالطبع، لا تغيب الواحدة منهما عن كلّ ما يُقال في أمر المسيحيّين وتراجع أدوارهم واستبعادهم وانكفائهم، ولا تخفى الأخرى على الذين يتحدّثون، في المقابل، من باب طمأنتهم واستدعاء مشاركتهم، وتعزيز تضامنهم مع مواطنيهم وولائهم لبلدانهم.
المستقبل شأن مشترك
كنا نسمع في الماضي من يعظ المسيحيّين ويحذرهم من مغبّة الإتكال على قوى خارجية. ويعرض عليهم الحماية، وان بطريقة غير مباشرة احياناً. والمشكلة في موقف كهذا كانت مزدوجة. فهو يستعيد تفكيراً نمطياً، بات بعيداً عن الواقع، يفترض حماية الغرب للأقليات المسيحيّة بقصد استخدامها ضد الأغلبيات. والحقيقة أن الدول الغربية لا تضع المسيحيّين العرب في أولويات حساباتها وأن هؤلاء لا يستدعون دعماً منها ولا يتوقعونه. ثم إن هذا الموقف، من ناحية ثانية، أسير منطق الحماية، بديلاً من الاضطهاد، وكأن المساواة واحترام حقوق الإنسان الأساسية بمثابة قيم مجردة. فيبدو التأكيد أن ما يصيب بعض المسيحيّين في غير بلد عربي هو من فعل المتطرفين، أقرب إلى التنصل بل إلى اللامبالاة.
في كل حال، ليس مستقبل المسيحيين شأن المسيحيين وحدهم بل هو بالقدر نفسه شأن مواطنيهم المسلمين. ولن تنجح عملية الإنتقال من انظمة الإستبداد الى نظام المشاركة الديموقراطية، التي كانت أول المطالب واقواها، من دون اعادة بناء الدولة والجماعة الوطنية على نحو يحترم التنوع، بل يحسبه غنى للمجتمع، ويحقق المساواة في المواطنة من غير تمييز ديني او اتني او ثقافي. واعادة البناء ليست مجرد معالجة لما يسمى غالباً مشكلة الأقليات، تبدأ من التطمين اللفظي، صدقت نواياه ام لم تصدق، او من الوعد بالحماية، حماية القوي للضعيف. هناك ارث من العصبيّات المتواجهة والنفور بين ابناء الوطن الواحد، ساهمت انظمة الإستبداد في تعميقه. امام كل ذلك، لا تكفي المساواة الحقوقية بل ينبغي اقامة نظم سياسية تيسّر مشاركة الجميع، من دون تكريس الجماعات الطائفية وكأنها كيانات سياسية. وضمان تلك المشاركة يحفظ وحدة الأوطان.
قد لا تكفي المساواة التامة والفعلية بالحقوق لضمان حسن التمثيل وتأمين المشاركة السياسية المنصفة في المجتمعات المتنوعة. لا بد من مؤسسات او تدابير، تختلف باختلاف البلدان، تكفل عدم وقوع تمييز على اية فئة من الناس بسبب انتمائها الطائفي او الإتني. امّا الجانب الثقافي للمسألة فلا ينحصر بالإعتراف بحق الخصوصية بل يتعداه الى القبول بتعدد الهويات عند المواطنين وتصالحها في كنف الوطنية الجامعة، والى تعزيز الشراكة في القيم وفي البنى الرمزية الوطنية.
المصدر: جريدة الحياة – طارق متري