الفاشر.. القاتل والمقتول وجه واحد

آراء

خاص لـ هات بوست:

بعد تحوّل الوطن إلى ساحةٍ تتنازع فيها لغة السلاح وانعدام الولاءات للوطن، وتتقاطع المأساة مع الصراع الأليم، لا يبدو المشهد وليد اللحظة، بل خلاصة عقودٍ من التراكمات التي حوّلت في الماضي دارفور إلى بؤرة صراعٍ دائم، تتغيّر فيها الأسماء والرايات، بينما تبقى الأسباب ذاتها: السلطة، والهوية، وغياب الحكمة السياسية وولاء الحزبية.

اليوم، يتواجه أبناء الأرض الواحدة في حربٍ لا منتصر فيها، ولا خاسر إلا الشعب، حربٍ تنتمي إلى الماضي أكثر مما تنتمي إلى المستقبل. تعيش مدينة الفاشر في السودان، واحدة من أكثر الفترات مأساوية في تاريخ السودان الحديث، بعدما تحوّلت إلى بؤرةٍ لصراعٍ دموي لا يمكن اختزاله في مواجهة عسكرية بين طرفين، بل في أزمة هوية وشرعية وغياب مشروع وطني جامع للكلمة السودانية العربية.

فما يجري في الفاشر اليوم هو انعكاس مباشر لانهيار منظومة الدولة الوطنية، وتفكك مؤسساتها، وتحوّل الولاءات من الوطن إلى السلاح والفكر الإخواني، ومن الفكرة إلى الحزبية.

في جوهر الأزمة، يقف الصراع على السلطة بوصفه المحرّك الأبرز للأحداث. فبعد عقودٍ من الحكم المركزي الذي تجاهل الأطراف، تحوّلت دارفور إلى نموذج حيّ للتهميش والاحتقان. ومع سقوط النظام السابق، كان الأمل أن تفتح المرحلة الانتقالية صفحة جديدة من التوافق الوطني، غير أن الانقسامات العسكرية والسياسية أعادت إنتاج الأزمة من جديد بصيغٍ أكثر خطورة، إذ باتت كل قوة ترى أن السلاح وسيلتها الوحيدة لحماية وجودها ونفوذها الذي تريد منه الاستمرار على حساب دم الأبرياء.

إنّ ما يحدث في السودان اليوم ليس مجرّد صراع داخلي وحرب أهلية فقط، بل هو انعكاسٌ لغياب الحكمة السياسية على المستويين المحلي والإقليمي. فالنخب الحاكمة في السودان، سواء المدنية أو العسكرية، لم تمتلك رؤيةً استراتيجية لبناء دولة ذات مؤسسات حديثة، و مع تسكين الألم تحوّلت المفاوضات الشكلية إلى صفقاتٍ ظرفية، والتحالفات إلى أدوات للهيمنة، فيما ظل المواطن العادي وقودًا لصراع لا ناقة له فيه ولا جمل.

والأخطر من ذلك أن المشهد السوداني بات مفتوحًا أمام التدخلات الخارجية التي تبحث عن موطئ قدمٍ في معادلةٍ جيوسياسية مضطربة، مما زاد المشهد تعقيدًا وأبعد الحل عن أيدي السودانيين أنفسهم.

الفاشر، تعيد للأذهان أحداث دارفور سابقًا، القاتل والمقتول واحد، كلاهما ضحية لدوامة السلطة والثأر، وضحية لفشلٍ تاريخي في إدارة التنوع وبناء الثقة الوطنية. لم تعد المسألة من يحكم السودان، بل كيف يُحكم السودان، وهل يمكن للعقل السياسي أن ينتصر على الغريزة الانتقامية؟

إنّ ما تحتاجه السودان اليوم ليس انتصار طرف على آخر، بل استعادة مفهوم الدولة الجامعة التي تحتضن الجميع. فالسلاح لا يصنع شرعية، والعنف لا يبني وطنًا. وحدها الحكمة السياسية والإرادة الوطنية قادرتان على إنقاذ السودان من هذا المسار الانتحاري، وإعادتها إلى مكانها الطبيعي على خارطة وطنٍ يبحث عن السلام.