خاص لـ هات بوست:
لا أنفي أن في هذه الأرض تراثًا، ولا أنكر أن التاريخ مرّ من هنا.
لكن ما مرّ، لم يكن حضارةً بالمفهوم المتحفي، ولا مدينةً بمعايير الأثر الرسمي، بل مرّ إنسان… وحسب.
وما الحياة، وما التراث، وما التاريخ، إن لم تكن كلها من الإنسان ولأجله؟
الفاية — في مداها، وفي صخورها التي لم يُنقش عليها اسم إنسان، بل رسم عليها التاريخ خطوط الجيولوجيا، وفي تربتها التي لم تُبنَ عليها المعابد — تحمل أثرًا آخر:
أثر الإنسان حين يكون العبور نفسه هو الحدث، والنجاة هي القصة، والبقاء بصمت هو النقش الوحيد.
لم تترك تلك الجماعات ذهبًا، ولا نُظم ريّ، ولا معابد، ولا تباهيًا في البناء، بل تركت شظايا من حجر، وطريقة نحت، وموقع مأوى.
تركت ما يكفي ليقول لنا العلم: نعم، كان الإنسان هنا.
ليست الفاية شاهدًا على “حضارة” بالمقاييس المتداولة، لكنها شاهدٌ على ما هو أعمق: أن الوجود الإنساني لا يُقاس بما بُني، بل أحيانًا بما تُرك، وما رُحِّل به بصمت.
مررتُ بجبل الفاية في نوفمبر 2024. رأيتُه… لم تكن عليه لافتة تشرح، ولا سياج يحجز، ولا قاعة عرض تمهّد للحكاية.
في زمنٍ اعتادت فيه المتاحف أن تجمع وتُنمّق، وتعيد ترتيب المشاهد لتناسب الرواية، جبل الفاية أصدق من كل واجهات العرض الزجاجية ومجسّمات الفخار.
فهو لا يُخبرنا بما نريد سماعه، بل بما كنّاه نحن: عن الهجرات الأولى، عن بشرٍ في طريقٍ طويل، حفاة، متعبين، يبحثون عن ضوء في نهاية الرمال.
الفاية تذكّرنا بأننا كنّا يومًا مجرّد بشر نحاول أن نعيش. وأن غريزة البقاء… هي الإنسان.
وما يُدهش في الفاية ، ليس ما كُتب عليه، بل ما لم يُكتب.
لا نقوش هنا، لا رموز، ولا أسماء للملوك.
لم يترك أولئك الذين مرّوا من هنا أثرًا على الجدران، لأنهم — ببساطة — لم يكن لديهم جدران.
قصص لم تُحفظ، ولم تُروَ.
ما تركوه هو: ترتيب خفيف لأدوات الصيد، نقش خافت في صخر البقاء، وشاهد علمي يقول:
كان الإنسان هنا، قبل أن يملك لغةً للكتابة، أو نقشًا للذاكرة.
وإن كان جبل الفاية قد سُجّل في التراث العالمي، فقد كان — في صمته — يعلّمنا أن التاريخ لا يبدأ حين نُدوّنه، بل حين نعيشه.
جبل الفاية … الرواية العتيقة في الشارقة، هو واحدٌ من أقدم المواقع التي عُثر فيها على دليلٍ موثّق للاستيطان البشري خارج إفريقيا.
ففي طبقاته العميقة، وعلى صخوره الصامتة، وُجدت أدوات حجرية تعود إلى ما يُقارب 125 ألف عام، أي إلى حقبة العصر الحجري القديم الأوسط — حين لم تكن هناك لغة مكتوبة، لكن الإنسان كان موجودًا، يصنع أدواته، ويحاول البقاء.
ما كُشف في الفاية لم يكن مجرد أثر، بل انعطافة علمية. فحتى اكتشاف هذا الموقع، كانت النظرية السائدة تقول إن الإنسان العاقل لم يغادر إفريقيا إلا قبل نحو 60 ألف عام.
لكن الفاية، بهدوئه، قال شيئًا آخر: إن الخروج كان أقدم، وإن شبه الجزيرة العربية لم تكن مجرد ممر، بل موطنًا مؤقتًا للإنسان في بداياته الأولى.
بالنسبة لي، كانت الفاية إثباتًا إنسانيًا قبل أن تكون اكتشافًا أثريًا.
إثباتًا لكل من يردّد أن الخليج لا يملك حضارة، أو أن هذه الأرض لم تكن يومًا موطنًا للإنسان.
لكن الحقيقة أوسع من الخطابات؛ ففي صحراء الخليج، وفي جباله، قصصٌ كثيرة اكتُشفت، وأخرى تنتظر من ينصت لها.
الفاية ليست مجرد نقطة على خريطة، بل شهادة جغرافية تنقض الادّعاء بأن الإنسان لم يمرّ من هنا، أو لم يترك أثرًا — وسكن، وعاش، وترك أثرًا… ولو بصمت.
ولعلّ من أجمل ما يُحسب لهذه الأرض، وللتراث العالمي، أن الفاية وجدت من ينصت لصمتها، ويوثّقها، ويصونها.
وقد تُوِّج هذا الاعتراف الحضاري مؤخرًا بإدراج الفاية ضمن قائمة التراث العالمي لـمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، ليغدو شاهدًا لا يُؤرِّخ للبدايات فحسب، بل يوسّع مداركنا عن الإنسان، وعن معنى البقاء.
فتحيّة امتنانٍ لكل من جعل الفاية لا تنتمي فقط إلى سجلّ التاريخ، بل إلى وعي الحاضر، وإلى ذاكرةٍ لا تزال تُكتب — في الشارقة، وفي الإمارات