“الله لا يعطيهم العافية”

آراء

خاص لـ هات بوست: 

نستخدم نحن، أهل بلاد الشام، مصطلح مجازي قد لا نقصده بالمعنى الحرفي، يدل على امتعاضنا من فعل ما ارتكبه أحدهم، ربما سبب من خلاله أذىً، فنقول له: “الله لا يعطيك العافية”، هذا ما ورد في ذهني حين قرأت أن أحدهم قد قتل من حرق المصحف في السويد منذ عام ونيف.

لا يختلف اثنان أن من قام بحرق المصحف هو إنسان غبي مستفز، كان قد أقدم على فعلته تلك بحجة أن “القرآن يجب حظره في العالم لما يسببه من خطر على الديمقراطية والأخلاق والقيم الإنسانية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وأنه لا يعمل في هذا الوقت وهذا العصر”. ما من شك أن هذا الكلام هو استهتار بمعتقدات المسلمين وكتابهم، تعرض صاحبه لمحاكمة بتهمة التحريض على الكراهية والعنصرية، وكان الحكم سيصدر خلال أيام لو أنه لم يقتل.

ربما لم يكن الحكم سيشفي غليل من استفزهم الأمر، لذلك ارتأى بعضهم تنفيذ حكمهم كما يشاؤون دون العودة للقوانين، بل بالخروج عنها، وقد ترى أحدهم مقتنعاً أن “القتل” هو جزاء من تسول له نفسه إهانة الإسلام أو المسلمين.

للأسف هذه ليست كتلك، والقتل العمد هو عند الله إثم كبير، حرّمه الله عز وجل تحريماً مضاعفاً: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا— وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأنعام 151)، وذكره في أكثر من موضع في التنزيل الحكيم كعمل سيء محرّم، سواء لبني إسرائيل {منْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة 32)، أم لباقي الأمم.

أما الفساد في الأرض فيشمل ما هو أكبر من حرق أوراق المصحف من قبل أرعن، كالسطو المسلح مثلاً، أو الاغتصاب، أو ما يماثل ذلك من جرائم، يمكن للقوانين تحديدها، وتطبيق ما تراه مناسباً، لا أن يطبق كل فرد ما يراه، فالإنسانية يفترض أنها وصلت لمرحلة متقدمة من الحوكمة بما فيها السلطة القضائية في كل دولة، والتي يقع على عاتقها تحقيق العدالة.

فإذا عدنا لحارق المصحف، كان سيلقى جزاؤه المناسب لبث الكراهية، أما نحن المسلمين فليقل عن كتابنا ما يشاء ويفعل به ما يشاء، فهذا لن يغير من قدسية الكتاب بالنسبة لنا كمسلمين مؤمنين بكل ما جاء فيه، ولن يزعزع ثقتنا بما احتواه من رسالة ونبوة، ولن يسيء لديننا في شيء، فنحن لا نخاف على هذا الدين العظيم من ترهات يطلقها كائن من كان، بل على العكس نحن عباد الرحمن الذين {إِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان 63)، وندفع الحسنة مقابل السيئة {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت 34).

أما وقد قُتل هذا الأحمق، فقد كرّس القاتل صورة نمطية عن “المسلم” بكونه “إرهابي”، يلجأ إلى العنف كلما أساء له أحد، لا يفهم إلا لغة القتل، وفي ظل عالم ينحو باتجاه العنصرية، يتم تناسي كل الإرهاب الذي يطبق في منطقتنا، لصالح حادثة كهذه، وكأن القتيل قد حقق في موته ما كان يريد قوله حين فعل ما فعل، ليثبت لكل راغب بالتصديق أن لديه وجهة نظر فيما ارتكبه زوراً وبهتانا، عدا عن انعكاس الأمر على التعامل مع المسلمين في أنحاء العالم.

من جهة أخرى، ثمة سؤال يطرح نفسه هنا: هل نحن أعطينا المصحف حقه قبل أن نثور غيرة على أوراقه؟ اعتدنا أن نتلوا آياته لنختمه، ونحفظ بعضها ونردده، لكن هل قرأناه بما تحمله الكلمة من معنى التدبر والفهم؟ ألم نقف عند تفسيرات عمرها قرون بحجة أن من فسروا يعلمون ما لا نعلم رغم تطور المعارف؟ هل عملنا بما جاء في الكتاب أم أننا فعلياً أزحناه جانباً واستخدمنا ما جاد به الفقهاء؟ ألا نعتبر النقل أهم من العقل، فنحتكم إلى حديث منقول حتى لو تعارض مع منطق القرآن؟

ثم أن أخلاق التنزيل الحكيم تتنافى مع ما ينتهجه كثير ممن ثاروا عند حرق أوراق المصحف، فتراهم يهمزون ويلمزون، ويسخرون من الناس، ويتنابزون بالألقاب، ويرمون المحصنات، ولا يكظمون الغيظ، ولا يعفون ولا يصفحون، ويتقولون على الله ما لا يعلمون، ولا يتبينوا قبل أن يصيبوا قوماً بجهالة، والقائمة تطول من أخلاق وقيم إنسانية، نرى أنفسنا بعيدين عن الالتزام بها.

ما دعاني لكتابة هذا الكلام، هو ما نقلته وسائل التواصل من تعليقات لـ “مسلمين” يثنون على قتل ذاك الرجل، ويعتبرون الجريمة إنجاز أعاد للإسلام اعتباره، لا يسعني إلا أن أقول لكم كمسلمة مؤمنة برسالة محمد (ص): “الله لا يعطيكم العافية”، إلا أني فعلياً أتمنى العافية للجميع، ولكم تحديداً الهداية إلى طريق الصواب.