كاتب سعودي
صدر في العام الماضي2013م عن دار الانتشار العربي كتاب بعنوان: (الليبرالية في السعودية الفكرة.. الممارسات.. الرؤى المستقبلية)، تأليف مجموعة، وبإعداد وإشراف “وحدة الدراسات في مركز صناعة الفكر”. وهذا المركز بعنوانه الباذخ دعاية هو مركز مغمور، غير معروف؛ إلا عند ذويه. والكتاب الذي نحن بصدده كتاب كبير في حجمه، يقع في 494 صفحة من القطع المتوسط. وقد تم إخراجه بطباعة فاخرة، وبتجليد فاخر أيضاً، مما يؤكد أن الدعائية الفجّة كانت تستهدف أكبر قدر من جماهير العوام الذين تشدهم الشكلانية الدعائية أكثر مما تشدهم المضامين العلمية التي لا يستطيعون فرزها، على الأقل في لحظات الاقتناء التي تستلزم سرعة التقييم بالتصفح السريع، بل لقد رأيت كثيرين يشترونه دون أن يفتحوه، لمجرد أن التيّار وجّه بدعمه، ووضعه على قائمة المُلهِمات.
أيُّ متصفح للكتاب فضلاً عن قارئه يستطيع الجزم بأن الكتاب يُعبّر عن رؤية صحوية إخوانية مؤدلجة للحراك الليبرالي في السعودية. ولا مشكلة علمية هنا، إذ من حق كل تيار أن يُعبّر عن رؤيته الخاصة، بالأدوات والمضامين التي يرى أنها الأنسب لتحقيق أهدافه في ميدان التفاعلية الفكرية/ العلمية. أقول: لا مشكلة هنا في هذا التحيّز؛ لو لم يدعِ أصحابه الموضوعية العلمية؛ ولو لم يكن العنوان متجرداً من الإشارات المُعبّرة عن هوية البحث، أو ما يعدونه بحثاً. وهذا مبعث الاعتراض الذي يستوطن هذه المقالات التي سأناقش فيها عبثية هذا الكتاب، لا من خلال كونه كتاباً في الاستعداء على الليبرالية وتشويه مبادئها ونضال رموزها؛ إذ هناك الكثير من الكتب التي تنحو هذا المنحى الهجومي الاستعدائي كثيرة جداً، ومع هذا لم نر التعرض لها، لأنها لا تُمارس إلا حقها، حتى ولو من بوابة الوعظ الشتائمي الذي لا تستطيع هذه التيارات الانغلاقية غيره في حلبة السجال المعرفي.
كما وُضع على الغلاف، الدراسة من إعداد فريق بحثي مكون من سبعة باحثين، ومن هيئة استشارية مكونة من خمسة مستشارين. وأعضاء الفريق البحثي غير معروفين بالدرجة الكافية في مجال الدراسات الفكرية، بخلاف أعضاء الفريق الاستشساري الذين لبعضهم شيء من حضور ولو خافت في السجال المعرفي المحلي. ومن ثم فهم معروفون بتوجهاتهم التي يعرفها معظم المتابعين للحراك الثقافي/ الفكري المحلي.
بالبحث (عبر محركات البحث) عن المكانة الاعتبارية فكرياً لأعضاء الفريق البحثي؛ تبيّن أن أغلبيتهم الساحقة (وهم غير سعوديين، أقصد هؤلاء الأغلبية الساحقة) من تيار الإسلاموية النضالية، بل بعضهم مرتبط بالإخوان كحركة، وبالحراك الإسلاموي النضالي في مصر تحديداً. ومرة أخرى، لا مشكلة هنا، أي أن هذا الارتباط لا يعني شيئاً سلبياً من الناحية العلمية؛ لو لم يزعم أصحابه أنهم يُقدّمون قراءة موضوعية للتيار الليبرالي في السعودية.
لو صرّح مؤلفو هذا الكتاب، أو المشرفُ عليهم، بأنهم يقدمون قراءة إسلامية صحوية للخطاب الليبرالي السعودي، لم أكن لأشير إلى الخلفيات الإيديولوجية والحركية لهذا الفريق البحثي. لكن أن يتعمدوا إخفاء هويتهم تحت كثير من العناوين المحايدة، ثم يمارسوا الانحياز الكامل ضد كل الفعاليات الليبرالية، فهذا تزييف علمي، وخداع حركي، يجب كشفه، خاصة عندما يتعلق الأمر بكتاب كانت الدعاية له واسعة، وحظي جرّاء ذلك بكثير من الرواج.
إن الاضطراب الواضح بين مقتضيات الموضوعية المُدّعاة، ومقتضيات الهم الإيديولوجي (وهو المحفز الحقيقي لإصدار هذا الكتاب) جعل السرد الكتابي يتعرض لهفوات علمية واضحة، سأكشف عنها لاحقاً، بل ظهر هذا الاضطراب حتى في الحوار الذي نشرته جريدة الشرق مع المشرف على الفريق البحثي. ففي حوار مع المشرف، نُشر في جريدة الشرق 21/3/2013م قال عن هدف هذا الكتاب ما نصه: “إعادة التقييم الموضوعي لما يسمى بالليبرالية في السعودية، ومحاولة فهم طبيعة المرحلة… القادمة، وأثرها على حيثيات المشروع برمته”. فهو هنا يؤكد الموضوعية (رغم ظهور التحيز ابتداء، وذلك في نفي الليبرالية بإحالة التسمية إلى المجهول ” يُسمىّ بالليبرالية”)، ويدعم هذا الادعاء الموضوعي بإشارته أنها مجرد:”محاولة فهم” !. لكنه وفي ذات السطر ينقض هذه الموضوعية صراحة، ويؤكد هدفه الإيديولوجي، عندما يصرّح بأنهم يسعون لتقديم توصيات “منهجية كحالة ممانعة أمام الموجات التغريبية في إطارات ومجالات متقدمة، وغيرها من أهداف واضحة في الدراسة”. نعم ، هي أهداف واضحة في الدراسة، فلماذا ادعاء الموضوعية في سياق (الممانعة!) التي تتعمد مواجهة التغريب؟!.
إذن، هذا الكتاب يتعمد الحشد الإيديولوجي لمواجهة (الموجات التغربية) التي تسيطر على وعي الأصولية الصحوية، والتي هي في الأصل مستمدة من هواجس ومخاوف ومزاعم الإيديولوجيا الإخوانية، تلك المخاوف التي تمثلت أرقى زواياها الحادة في الأطروحة القطبية التي هيمنت على وعي الحركات الإسلاموية على امتداد العالم الإسلامي، بما في ذلك الحركات المتأسلمة التي تعارض الإخوان، بل وتتضاد من منطق تنافسي في الغالب مع مجمل الحراك الإخواني، في شقيه: الفكري والسياسي.
واضح من حجم التخبط البحثي/ العلمي الكبير أن الفريق البحثي مُكوّن من قدرات هزيلة جداً، خاصة عندما يُقاس المنجز بحجم المهمة التي يعلن المخطط البحثي عن نيته القيام بها. فالادعاءات عريضة، وهي تشي بأن ثمة منجزاً علمياً توثيقياً يعتمد الموضوعية، ولكن، عند معاينة المنجز على امتداد هذه الصفحات التي ناهزت 500 صفحة، نجد الهزالة والاضطراب والدعائية الوعظية هي الروح التي تسكن صفحات هذا الكتاب.
وللإنصاف، لا يسير الكتاب على وتيرة وعظية واحدة، بل نجد هؤلاء المؤلفين يسترسلون في الاستعراض الموضوعي نسبياً ويتناولون القضايا بما يشبه الحياد، ولكن، كأنما يتنبّهون فجأة؛ فيخترقون السياق الموضوعي بالتعليقات التي يقصدون منها توظيف هذا الحياد الظاهري لتأكيد مبدأ التصدي لليبرالية. ومن هنا تصبح الموضوعية الشكلانية مجرد خداع صفحات معدودة، يُراد منها أن تكون في خدمة اللاّحياد.
ادعاء الحيادية تم التأكيد عليه مراراً، فابتداء من العنوان (الأصلي والفرعي) الذي لا يشي بأي انحياز، بل هي دراسة (رصد وتحليل)، كما وُضعت العبارة بنصها على غلاف الكتاب. فمن خلال العنوان بكل فروعه نجد الموضوعية هدفاً معلنا ومؤكداً. أيضاً تصريح المشرف الذي نشرته جريدة الشرق، والذي سبقت الإشارة إليه، في الجزء الأول منه يؤكد على الموضوعية، إضافة إلى التأكيد الذي ورد في الكتاب صراحة، وذلك في المقدمة ص 15 حيث يقول: “تهدف هذه الدراسة إلى إعادة التقييم الموضوعي للمشروع الليبرالي في المملكة العربية السعودية”، وأيضا المقدمة ص17 ” تسعى الدراسة في مجالها الموضوعي إلى إلقاء نظرة معمقة على مفردات المشروع الليبرالي”. ولكي يؤكدوا الانضباطية العلمية يصرحون ص20 بأن هذه الدراسة ” تعتمد على المنهج الاستقرائي الذي يعتمد على أساس الوقائع التاريخية والمعاصرة للوصول إلى النتائج المطلوبة”. ومن الواضح أن العبارة خانتهم هنا، فكانت (النتائج المطلوبة!) مطلوبة، أي مستهدفة سلفاً، وليست نتائج ينتجها البحث من خلال الاستقراء، فيحدث العلم بها بعد الجهل؛ كما هو الحال في أي بحث علمي حقيقي.
ولأن الغاية منذ البداية كانت موجهة، ولم تكن موضوعية بحال، فالتأكيد على أن الهدف موضوعي يتم بإلحاح شديد، بل وبتفصيل يحاول تمرير هذا الوهم. يقول ص26 ” كما واجه فريق البحثي [هكذا] مشكلة أخرى تتعلق بمحاولته للتَّجرد[هكذا] والموضوعية خلال الدراسة، بحيث لا تخرج نتائج الدراسة مصطبغة بالانطباعات أو الأحكام السابقة، وهو ما استدعى منه وضع العديد من المقاييس العلمية الدقيقة لقياس تأثيرات قرارٍ أو سياسةٍ بعينها لمجتمع البحث، وضمان عدم تداخله مع عامل آخر” . ويقول ص61: “يحتاج الأمر إلى دراسة منهجية وتأطيرية بعيدة في نظرتها عميقة في تحليلها، تعمل على رصد هذا المشروع بتفصيل منهجي يعتمد الحجة والبرهان والدليل والموضوعية”. وسنرى في هذا المقال بأجزائه كيف أن الدراسة لم تكن “مصطبغة بالانطباعات أو الأحكام السابقة”، وأن علاقتها بعمق التحليل وبالدليل وبالموضوعية علاقة تضاد تام!.
إنها (وهم موضوعية) للاستهلاك المحلي الذي تعود على مثل هذا المنتج الرديء. وحتى يتم تمرير هذا الوهم (ادعاء الموضوعية) حاولت الدراسة الاستعانة بشكلانية البحث الموضوعي، فوضعت الجداول البيانية والإحصائيات التفصيلية والنسب المئوية…إلخ المظاهر التي تشي بأن وراء هذا رصداً متقناً وبحثاً متجرداً. وماذا تغني الجداول والإحصائيات إذا كانت العيّنة المنتقاة مأخوذة بعناية لتأكيد نتيجة ما. فمثلاً، في ص 199 تجدهم يختارون 12 مقالاً من مقالات كاتب قد يكون كتب ونشر أكثر من 500 مقال، ثم يبنون إحصائياتهم عليها، فيؤكدون مثلاً أن 58% كانت نظرتها سلبية للمؤسسة الدينية، أو هي نسبة تعادي التيار الإسلامي. والقارئ الجماهيري عندما يرى هذه النسبة المئوية الدقيقة المبنية على الجداول التفصيلية السابقة يؤمن بها، ويعتقد موضوعيتها، دون أن يكلف نفسه عناء متابعة خطوات العملية العلمية: الرصد والاختيار والفرز، فضلاً عن مضمون التحليل الذي يجري تصنيف موقف المقال/ المقالات بناء عليه.
ورغم كل هذا الادعاء العريض الذي يتوسل الموضوعية، ورغم التأكيد عليه مراراً، صراحة وضمناً، إلا أنهم يكشفون عن غاياتهم الإيديولوجية منذ الصفحات الأولى للكتاب، كما يكشفون عن وجههم الحقيقي عند التوصيات في آخر الكتاب. وليس الأمر متوقفاً على المقدمة والخاتمة، بل كل فصول ومباحث الكتاب زاخرة بما يؤكد هذا التحيز الذي ينقض كل الادعاءات الموضوعية،
فضلاً عن الركاكة البحثية، والأخطاء الشنيعة (وهي أخطاء وتناقضات ومغالطات سنشير إلى بعضها لاحقاً)، التي تدل على أن هذا الفريق البحثي لا علاقة له بالبحث ولا بالمعرفة، بل هو فريق يمتهن الصراع الإعلامي، لا أكثر ولا أقل.
إنهم، ومنذ البداية، يتناقضون مع ادعاءاتهم الكاذبة. وكي ترى حجم التناقض بحق؛ لا بد أن تستحضر مقولاتهم السابقة في (الموضوعية!). منذ البداية يتعمدون إظهار التيار الليبرالي كخطر يهدد وجود المجتمع (أي أنه عدو يجب التصدي له)، وذلك في عبارات فارغة تجمع بين التهويل والاستعداء. يصفون المشروع الليبرالي ص 16 بأنه مشروع له ” ارتباطه بعدد من القضايا المرتبطة بالأمن القومي للمملكة بمعنييه المباشر وغير والمباشر، حيث ترتبط حركيات الفكر الليبرالي وتأثيره وكذلك أصحابه بعدد من أهم القضايا التي تمس وجود أي مجتمع، مثل هويته وصيروراته الحضارية ورؤاه المستقبلية وفق هويته المؤثرة في عاداته وتقاليده وقيمه”. وعندما يعودون إلى تاريخ التيار الليبرالي، يربطونه من وجهة نظر خاصة مرتبط بالهموم الإخوانية بسقوط الخلافة. يقولون عن التيار الليبرالي ص14: ” ووجود ذلك التيار في مجتمعاتنا دعَّم انهيار دولة الخلافة، التي جمعت كثيراً من بلدان وأقاليم المسلمين المهمة لحوالي خمسة قرون […] وفي العقود التالية لانهيار الخلافة تأطّر الفكر الليبرالي في المجتمعات العربية والإسلامية بفعل البذرة التي نمت، وهي الأجيال التي تربت في الغرب، ونحت نحوه في تفكيرها” .
من الواضح هنا أنهم يرون التيار الليبرالي عدواً أزلياً، بل ويُحمّلونه وِزر تفكك العالم الإسلامي وسقوط (دولة الخلافة)، التي أسقطها كما يقولون الليبراليون في الماضي، وهم (= الليبراليون) يقفون اليوم في طريقها، فماذا تتوقع أن يكون موقفهم من مُحرقي هذا الحلم الإيديولوجي، هذا الحلم المتمثل في هذه الخلافة التي تراودهم مع كل نفس من أنفاسهم، والتي يظهر من كلامهم هنا مدى أسفهم الشديد عليها، وحنينهم إلى عودتها.
لا يستطيعون التحرر لو مؤقتاً من همهم الإيديولوجي الخاص. فحتى عندما يضعون الأطر التي يستهدفون بها الإجابة عن أسئلة الدراسة، يضعونها في عبارة تدل على تجريم التوجه الليبرالي. يتضح ذلك عندما يضعون من أهداف الدراسة: “محاولة التفرقة بين المنادين صراحة بالأفكار الليبرالية، وبين ’’المتلبسين’’ بالفكر دون وعي”. فمنذ البداية اعتمدوا الليبرالية تُهمة، فهم يتسامحون فقط مع مَنْ يقع فيها خطأ ودون قصد أو وعي.
أبدأ؛ لم يستطع مؤلفو هذا الكتاب إخفاء تحيزاتهم، ولا التعتيم على الهدف المقصود من هذا الجهد الجماعي، لم يستطيعوا الحفاظ حتى على الحياد الشكلي في حدوده الدنيا، بل إن الأسلوب الوعظي المباشر ينفجر كاللغم في كثير من صفحات الكتاب. فمثلا ص279 وما بعدها يتناولون مسألة الاختلاط، وينساقون في تناولها إلى درجة نسيان الموضوع الأصلي للكتاب، فيستشهدون بأقوال وبدراسات غربية تؤكد انتشار الزنا والحمل السفاح… إلخ بسبب الاختلاط، وكأن الكتاب مُحاججة صحوية في مسألة الاختلاط. وطبعاً، كل هذا الغثاء والعبث يتم بأسلوب وعظي ينتمي إلى أسلوب الكتيبات الصحوية الوعظية التي كانت تنتشر كالوباء بيننا قبل ثلاثين عاماً.
ومما يدل على أن توجهاتهم صحوية خاصة، ومن ثم فالدراسة موجهة لخدمة الهجوم الصحوي على الليبرالية قولهم عن الليبراليين ص370 : “غلب على طرحهم الإصلاحي قضايا إما أنها تدعو للانحلال أو لا تتفق مع مضمون أغلبية المجتمع السعودي، مثل تحرير المرأة، السينما، إلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قيادة المرأة، إلغاء المراكز الصيفية والمخيمات الدعوية ’’بحجة تفريخ الإرهاب’’، السماح بالاختلاط” . وهنا يتضح بجلاء أن الكتاب يأخذ مكانه البحثي في اصطفاف حركي واضح، إذ يفترض معركة دائرة بين تيارين متمايزين اجتماعياً، وهو لا يخفي انحيازه ضد التيار الليبرالي الذي يصفه بالانحلال. وعندما تصف تياراً ما بالانحلال؛ فإنك تضعه في دائرة: الخطر، وستحاربه بشراسة؛ مهما ادعيت الموضوعية التي قد تكون مجرد يافطة إعلامية تخفي الحبكة الصراعية في حكاية الزيف الأصولي.
يتبع
المصدر: الرياض