رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط
كان القرار الأميركي مجحفاً وخطأ كبيراً بنقل سفارة واشنطن إلى القدس مجاناً وبلا مقابل، ومن دون أن تقدم إسرائيل أي ثمن أو تخطو خطوة للأمام تتقدم بها عملية السلام المتعثرة، فالقرار الأميركي يعتبر مخالفة جسيمة للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة التي تؤكد أن مدينة القدس أرض محتلة منذ عام 1967 وتمنع الدول من نقل سفاراتها إليها، والحكومة السعودية، مثلاً، سبق لها أن حذرت من «العواقب الخطيرة لمثل هذه الخطوة غير المبررة لما تشكله من استفزاز لمشاعر المسلمين حول العالم»، ثم جاء نقل السفارة فعلياً ليكون بمثابة الهدية الكبرى التي تزيد من الصلف الإسرائيلي، وربما ليس جديداً ما تفعله قوات الاحتلال بهذا التعنت ضد الأبرياء العزل، فهي تفعله منذ قيام الاحتلال في 1948، لكن من المهم الإشارة هنا إلى أنه ليس جديداً كذلك المتاجرة بالدم الفلسطيني بوسائل رخيصة وطرق بالية سواء من دول أو أحزاب أو جماعات، فلطالما كانت القضية الفلسطينية مصدراً للمقاومة الشكلية تارة، والممانعة الشعبوية تارة أخرى، والاستغلال السياسي الرخيص تارة ثالثة، أما الجديد في ظل الأخبار السيئة التي تتوالى، أن الوعي لدى المتلقي أصبح أكبر من عمليات الكذب والتزوير والخداع، ولم تعد المتاجرة بحقوق الفلسطينيين تجد ذلك القبول كما كان سابقاً.
لا جدال أن الازدواجية والانتهازية ظلت العنوان الأبرز في تعاطي كثير من الدول مع القضية الفلسطينية، غير أن الحقائق، كما يقول الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان: «أشياء عنيدة»، فدولة مثل قطر تدعي أنها مع حقوق الفلسطينيين، بينما هي أول دولة خليجية تنفرد بمعاهدة مع تل أبيب للتطبيع بعيداً عن الإجماع العربي وترفع العلم الإسرائيلي في سماء الدوحة، كما أنها من جهة تزعم مساندتها للحقوق الفلسطينية، غير أنها تمارس التطبيع في أبشع صوره من تحت الطاولة، قبل أن يعترف الدبلوماسي القطري محمد العمادي، الذي طرده عشرات الفلسطينيين في غزة في فبراير (شباط) الماضي خلال زيارة له لأحد مستشفيات القطاع، بتفاصيل التطبيع السرية، عندما قال إنه زار إسرائيل نحو 20 مرة منذ عام 2014. مضيفاً أن كل تلك الزيارات اتسمت بالسرية لكنها لم تعد كذلك الآن. ماذا عن تركيا ذات العلاقة الوثيقة سياسيا واقتصاديا مع إسرائيل؟! بعد الأحداث الأخيرة طلبت من السفير الإسرائيلي في أنقرة مغادرة تركيا «لبعض الوقت»، لكن نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم، اعترضوا أمس على مشروع قرار طرحته المعارضة أمام البرلمان لإلغاء جميع الاتفاقات السياسية والتجارية والعسكرية مع إسرائيل، علما بأن التبادل التجاري بين البلدين بلغ نحو 5 مليارات دولار في العام الماضي فقط. وهكذا فإن الدول ذات العلاقة الحقيقية مع إسرائيل تستغل الدم الفلسطيني للمحافظة على مصالحها السياسية والتجارية، عبر المزايدة على مواقف الدول الأخرى التي تعمل سراً وعلانية من أجل توحيد الصف الفلسطيني وإيجاد حل حقيقي لقضيتهم.
لا شك أن الفلسطينيين هم الأكثر تضرراً من المزايدة على قضيتهم، فمن السهل إطلاق الشعارات ورفع الصوت عالياً، ومن الصعب التمسك بالمواقف الثابتة، وأكثر ما ينفع القضية الفلسطينية، وهي تمر بأسوأ مراحلها في أعقاب «الربيع العربي»، عدم السماح لتلك المزايدة بالتأثير على مواقف الشعوب العربية من القضية وتراجع تعاطفهم معها، فالمواقف الحقيقية تبقى والمواقف الاستعراضية تزول، ومن دون موقف عربي موحد مبني على مصالح الفلسطينيين الحقيقية لن يكون هناك سلام مع إسرائيل أبداً، ولنا في قمة «القدس» التي استضافتها السعودية الشهر الماضي خير مثال، وأعلن خلالها الملك سلمان بن عبد العزيز أن «القضية الفلسطينية هي قضيتنا الأولى وستظل كذلك، حتى حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة». ألم نقل إن الحقائق سيذكرها التاريخ وغيرها إلى زوال؟!
المصدر: الشرق الأوسط